وداعًا سيبولفيدا.. كاتب المقاومة والكبرياء
لم أكد أنتهى من قراءة روايتيه «العجوز الذى كان يقرأ الروايات الغرامية»، و«مذكرات قاتل عاطفى»، وبينما ما زال إعجابى به يختمر وأجدنى أفتش عن سيرة حياته، إذا بى أسمع أن الموت قد اختطفه. إنه الكاتب التشيلى لويس سيبولفيدا الذى سُئل فى حوار صحفى: «ما الشىء الأهم بالنسبة للكاتب؟» فأجاب: «الكبرياء».
كان الكاتب الكبير فى زيارة للبرتغال ورجع إلى إسبانيا بأعراض فيروس «كورونا»، وقضى ستة أسابيع فى مستشفى بشمال غرب إسبانيا، لكن العلاج لم ينقذه من الفيروس اللعين وغادرنا فى ١٦ أبريل الحالى عن نحو سبعين عامًا. لويس سيبولفيدا ابن تشيلى، وكان والده يساريًا عريقًا، عاش تجربة الديمقراطية وسلفادور الليندى، وكان أحد قادة الحركة الطلابية التى ناصرت الليندى، وعندما قام الجنرال أوجستو بينوشيه بانقلاب عسكرى عام ١٩٧٣ بدأ عهده بقتل الرئيس المنتخب الليندى والشاعر العالمى بابلو نيرودا، وأوقف العمل بالدستور ورسخ حكم المجلس العسكرى، وشن حملة اعتقالات طالت الكاتب لويس سيبولفيدا فقضى فى السجون عامين ونصف العام، ثم حُكم عليه بالسجن مجددًا لمدة ثمانية وعشرين عامًا! واستبدل الحكم بالنفى، فهاجر سيبولفيدا عام ١٩٧٧ إلى دول أمريكا اللاتينية وعاش مدة هناك ثم تركها عام ١٩٨٢ إلى أوروبا حيث استقر هناك.
خلال تلك السنوات تناول لويس سيبولفيدا فاشية وجنون الجنرال بينوشيه فى كتابه «جنون بينوشيه» عام ٢٠٠٣، لكن شهرته الأدبية ترجع إلى روايته «العجوز الذى كان يقرأ الروايات الغرامية» التى وضعته فى مقدمة كُتّاب أمريكا اللاتينية وترجمت لأكثر من ٣٥ لغة منها العربية، وهى متوفرة بسهولة على النت مجانًا، إلى جانب روايته الأخرى «مذكرات قاتل عاطفى».
رواية «العجوز الذى كان يقرأ الروايات الغرامية» صدرت فى ١٩٨٨، واستندت إلى تجربة حياتية عاشها الكاتب فى جزء من غابات الأمازون الأقرب إلى الإكوادور، حيث يعيش شعب بدائى قديم يعرف بـ«الشوار»، ويعرض لويس سيبولفيدا لتقاليد ذلك الشعب، وعلاقته بالطبيعة والحيوانات فى غابات يمتد عمرها لأكثر من خمسمائة مليون عام، ويظهر فى المقابل همجية وقسوة البيض المنقبين عن الذهب والإخلال بتوازن الطبيعة وأسرارها من أجل المال.
يقدم لنا الروائى كل ذلك عبر شخصية العجوز «بوليفار» الذى يصارع نمرة توحشت بعد قتل صغارها، فتمضى لتفتك بسكان القرى، وتذكرالرواية- إلى حد ما- برواية هيرمان ملفيل الشهيرة «موبى ديك» الصادرة عام ١٨٥١ حيث يدور الصراع بين الإنسان وحوت مهول ويصبح الصراع الدموى نافذة للنظر إلى جوهر علاقة البشر بالوجود، إلا أن رواية لويس سيبولفيدا «العجوز الذى كان يقرأ الروايات الغرامية» تجربة أصيلة حقيقية حية لا علاقة لها بمنجز أدبى سابق عليها، تجربة لا تتكرر داخل الغابات ومع حيواناتها وأشجارها بعين أديب كبير.
حزنت للغاية على رحيل ذلك الكاتب اليسارى الكبير، الذى لم تجذبه صرعة الواقعية السحرية، وظل يرى أن الواقعية السحرية طريقة من طرق كثيرة، وظل يعتقد أن «الكبرياء» أهم شىء بالنسبة للكاتب، وربما تكون الكبرياء أهم شىء بالنسبة لكل إنسان.
كان سيبولفيدا إلى جوار أعماله الروائية كاتبًا صحفيًا مرموقًا وسينمائيًا، لم يحصل على أى جائزة أدبية دولية، لكنه شق طريقه إلى الذيوع بقلمه، وبأعماله الأدبية الممتعة فنيًا قبل أى شىء آخر رغم اختلاف مواضيع وقضايا تلك الأعمال، ففى روايته «مذكرات قاتل عاطفى» لا يطرح لويس سيبولفيدا قضية كبرى كتلك التى تناولها فى «العجوز الذى كان يقرأ الروايات الغرامية»، ويكتفى فقط بتقديم رواية بوليسية مشوقة تبرز لنا إلى حد مدهش نفسية قاتل محترف، وعلاقته بعالم الجريمة والمال.
أقول إننى لم أكد أنتهى من قراءة روايتيه وبينما ما زال إعجابى به يختمر إذا بى أسمع بنبأ رحيله، ويذكرنى ذلك برحيل الكاتب العراقى سعد محمد رحيم. كنت قد التقيته فى معرض الشارقة للكتاب عام ٢٠١٧، وأحببت شخصه الدمث الكريم، وهناك أهدانى روايته الجميلة «مقتل بائع الكتب»، ثم أرسل إلىّ لاحقًا مجموعته القصصية «كونكان»، وظللنا نتبادل الرسائل بالإيميل حتى فوجئت بخبر موته، وكان ذلك فى أبريل أيضًا، لكن عام ٢٠١٨.
وداعًا لويس سيبولفيدا، مبدعًا، ومقاومًا يمجد الكبرياء، فيذكرنا بقول المتنبى: «فلا عبرت بى ساعة لا تعزنى، ولا صحبتنى مهجة تقبل الظلما».