حوارات المتوسط.. آفاق الشراكة ومسارات الخطر
اكتسب المؤتمر السنوى «حوار المتوسط» ثقلًا كبيرًا، وهو يخطو فى نسخته الخامسة خطوات واسعة وكبيرة فى حجم القضايا التى يتعرض لها، حيث يعد هذا المؤتمر، الذى جرى إطلاقه فى عام ٢٠١٥، أحد أهم المحافل الدولية بمنطقة البحر المتوسط، فضلًا عن التنامى فى أوزان الشخصيات والمدعوين للحديث أمام الحضور.
تقوم على تنظيم المؤتمر وزارة الخارجية والتعاون الدولى الإيطالية، بالتعاون مع المعهد الإيطالى للدراسات السياسية الدولية «ISPI». وعُقدت جولته الخامسة خلال الفترة من ٥ إلى ٧ ديسمبر الجارى، فى العاصمة الإيطالية «روما»، بهدف معلن على أجندته الرئيسية هو صياغة رؤى إيجابية لمعالجة التحديات المشتركة على المستويين الإقليمى والدولى، من خلال تبادل الآراء والمقترحات والتحليلات من شخصيات الحضور، بالنظر إلى أن المشاركة فيه تشمل رؤساء ووزراء وممثلى حكومات دول البحر المتوسط، وتهدف النسخة الحالية إلى فتح المجال أمام مناقشة عدة قضايا إقليمية ودولية، فى المجالات التى تتسم بطابع التشابك والارتباطات الاقتصادية والسياسية والأمنية.
من أهم المحاور التى شهدتها تلك النسخة والمتحقق فيها هذا الارتباط والتشابك المشار إليه- محور «أمن الطاقة فى القرن الواحد والعشرين»، الذى شاركت فيه مصر بتمثيل من وزير البترول، المهندس طارق الملا، حيث كان مستهدفًا من هذا المحور أن يضع تصورًا حول سبل تحقيق أمن الطاقة واستقرار سوق الطاقة الإقليمية، وكيفية تخفيف حدة التقلبات بها، بالإضافة إلى إجراء تقييمات لأوضاع أسعار الطاقة العالمية حاليًا بالنسبة للمنتجين والمستهلكين، فضلًا عن مناقشة شفافية تبادل البيانات والشراكة العالمية لتحقيق أمن الطاقة، من خلال وضع توقعات للفترة المقبلة حول تطور ميزان العرض والطلب، ليمكن الوقوف على مدى الاستفادة ومساهمة التكنولوجيات الحديثة فى سرعة تحقيق الأهداف المشتركة وخفض تكاليف الإنتاج. هذه تصورات طموحة وبالتأكيد تقع جميعها فى صلب قضية «أمن الطاقة»، لذلك ذهب الوزير المصرى لطرح أهمية المبادرة المصرية لإنشاء «منتدى غاز شرق المتوسط»، لتحقيق الاستفادة الاقتصادية لدول وشعوب المنطقة من ثرواتها، كما أشار إلى أنه جرى توقيع اتفاق تعاون بين مصر والولايات المتحدة منذ أشهر قليلة بالقاهرة، لدعم مشروعات الطاقتين التقليدية والمتجددة وتحسين كفاءة الاستفادة منهما، وهو ما يتماشى مع اتفاق الشراكة الموقع من قبل بين مصر والاتحاد الأوروبى، ليحتل المنتدى مكانته إلى جانب روسيا فى تأمين إمدادات الطاقة لأوروبا. على اعتبار أن كلا الاتفاقين مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، مكملان لبعضهما بعضًا، ولكى تصبح منطقة شرق المتوسط مصدرًا مستقرًا للغاز المتجه إلى أوروبا، الأمر الذى يسهم فى تأمين مصادر الطاقة بالمنطقة ويعزز من تنويعها.
لكن المشهد العام لم يقتصر على شئون الطاقة وحدها، فهناك الكثير مما يهم مصر كان يدور على مسافة قريبة من أطروحات وخطط الطاقة الطموحة. فالمبعوث الدولى للملف الليبى كان أحد أبرز حضور المؤتمر، وألقى حديثًا غاية فى الأهمية والخطورة باعتبار ما يجرى فى ليبيا يقع فى صلب أحداث «المتوسط»، الذى يدور اللقاء بشأنه. ملخص ما ذكره «غسان سلامة»، أن جهود بعثته ركزت على احتواء النفوذ والتأثير الأجنبى فى ليبيا، مؤكدًا أنه لا يمكن التوصل لوقف إطلاق نار ليبى دون جمع كل الأطراف. بالطبع «سلامة» كالعادة لم يسمِ هذا الأجنبى المقصود، بل أحال الأمر إلى «مجلس الأمن»، فالمبعوث الأممى يرى أن عدم تصرف مجلس الأمن فاقم الأزمة فى ليبيا. وإذا به، بشكل مفاجئ، يرتفع بمستوى الخطر معربًا عن خشيته، وفق تقديره، أن عدم التوصل لاتفاق فى ليبيا قد يمد عدم الاستقرار إلى مصر والسودان، وأن تشهد كلتا الدولتين موجة هجرة كبيرة. هذه جمل نصية ذكرها غسان سلامة أمام الحضور، وهو حديث يلقى بظلال غائمة على تلك البعثة التى يرأسها «سلامة» منذ سنوات، معتبرًا أن جل جهده يقف عند محطة سعيه لجمع الأطراف فى ليبيا، إلى حوار من أجل التوصل لحل، لذلك فهو يضع مراهنته الكاملة، كما ذكر مؤخرًا، على مؤتمر برلين، باعتباره محاولة لوقف الحرب فى ليبيا، بالرغم من أن مقصده الكامل هو أن طرابلس العاصمة تتعرض لـ«هجوم عسكرى»، من دون أن ترى بعثته، أو يرصد هو ويوثق ما يجرى من انتهاكات تقوم بها الميليشيات التى تحكم طرابلس وما حولها، فضلًا عن التنظيمات الإرهابية التى تتواجد على مسافات متقاربة من مقره ومقر موظفيه الأمميين.
هذه الرؤية الأممية القاصرة والمختلة بشدة دفعت الرد الروسى لأن يعبر عما يراه فى تلك الفعالية مما يخص ليبيا وأزمتها المعقدة، حيث تتسابق أطراف عدة على تعميقها وقطع الطريق رغم كل الحديث المنمق على إمكانية الحل، وتسمية المهددات والأشياء بمسمياتها الواقعية غير المنحازة. لذلك حمل وزير الخارجية الروسى، سيرجى لافروف، إلى الحضور دهشته وتحفظ موسكو على عدم توجيه الدعوة للأطراف الليبية وجيران ليبيا لحضور مؤتمر برلين حول التسوية الليبية، حيث اعتبر هذا الأمر خاطئًا، بالنظر إلى أن روسيا تأمل فى أن يكون هذا المؤتمر شاملًا بالفعل، وترى من المحبذ أن يحضره الاتحاد الإفريقى، فهو الأقدر فى الوقت الراهن على دفع الأطراف الليبية نحو الحوار، على الأقل من أجل حماية المستقبل الليبى من خطوات المستقبل المتهورة، مثلما جرى توقيع الاتفاقات البحرية الأخيرة ما بين تركيا و«حكومة الوفاق» فى طرابلس، والأخيرة- من وجهة نظر أطراف إقليمية عديدة تتجاور فى «المتوسط» وحوله- فاقدة شرعية توقيع اتفاقات من هذا النوع، مثلما جرى على عجل استدعاء وزير خارجية تلك الحكومة، «محمد السيالة»، للقاء هام فى روما مع نظيره الإيطالى، الذى نقل له تحفظه الكبير على الاتفاق المشار إليه، وتحفظ باقى أعضاء دول الاتحاد الأوروبى الرئيسية على المضى قدمًا فى هذا المشروع التركى الذى وصل إلى جنوب المتوسط، والذى قد يحمل ضفاف البحر، شماله وجنوبه، إلى النزاع، بديلًا عن التسوية وآفاق الشراكة التى جلس المجتمعون فى روما لتلمس آلياتها.