الفرق بين أخذ قرار الانتحار ولحظة تنفيذ القرار
ما هو «المعيار» الذى يحدد «صغر» و«تفاهة»، أو «كبر» و«أهمية الأشياء»؟..
أولًا: أى معيار هو «نسبى»، بمعنى أنه يعبر عن ثقافة خاصة، ومزاج معين، ومصالح محددة.
وبالتالى فإن الشىء «الصغير» «التافه» عندى ليس هو الشىء «الصغير» «التافه» عند صديقتى.
ثانيًا: وهذا هو بيت القصيد الذى يؤرقنى منذ زمن بعيد، هل هناك ما نستطيع أن نسجنه فى قالب «الشىء التافه»، أو «الصغير»، فى مقابل «الشىء المهم» «الكبير»؟
إن ذرات الرمال تصنع الجبال، وقطرات الماء تصنع البحار وتروى الظمأ، وشمعة واحدة تضىء الظلام، ودقيقة من الزمن تفصل بين الموت والحياة، بين الليل وطلوع النهار.
فهل نعتبر قطرة الماء مثلًا، شيئًا «صغيرًا» «تافهًا»؟
النار من مستصغر الشرر، فهل من الحكمة أن نستهين بخيط دخان؟، وعود صغير من الكبريت مُلقى بجانب الحائط يكشف جريمة غامضة؟
ذرة واحدة من الملح، إما أن تصلح الطعام، أو تفقده مذاقه.
«فيروس» فى منتهى الصغر، لا يرى بالعين المجردة، يفتك بالأفراد، ويبيد الجماعات. كلمة واحدة تُقال فى الصباح، إما أن تعكر مزاجنا اليوم كله، أو تجعله يتألق.
نقطة حبر تلوث صفحة بأكملها، ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.
فهل من العدل، أو من حسن التمييز القول مثلًا إن ذرة الملح شىء تافه؟، أو أن كلمة تقال ليست بالأهمية التى نكترث لها؟، ألسنا نقول فى أمثالنا الشعبية «القشة التى قصمت ظهر البعير».. و«النواية تسند الزير»، و«جت على أهون سبب»؟
إنها تلك الأشياء التى يسميها البشر «صغيرة»، «ليست مهمة»، أو «تافهة»، لكنها تصنع كل الفرق وتميز بين الناس.
سلوكيات «صغيرة» أو تعليقات «تافهة» تعرضنا لها أو سمعناها فى مرحلة الطفولة، أو وجوه رأيناها، حتى ولو بشكل عابر، بإمكانها أن تخلق بشرًا إما أسوياء أو مرضى.
فى مقدمة كتابه «أسطورة سيزيف» يقول الفيلسوف والأديب ألبير كامو «٧ نوفمبر ١٩١٣- ٤ يناير ١٩٦٠»: إن الانتحار هو المشكلة الفلسفية الوحيدة الجديرة بالتأمل، حيث يفرق بين «الدافع للانتحار»، و«أخذ قرار الانتحار».
فالدافع الواضح أو غير الواضح ربما يكون الاكتئاب، أو الإحباط، أو ألم الفراق، أو الإصابة بمرض لا شفاء منه.
الإنسان يقرر الانتحار لأحد هذه الدوافع، لكننا لا ندرى بالتحديد وبدقة ما الذى جعله «ينفذ» هذا القرار الكامن، فى لحظة معينة فى يوم معين. وغالبًا ما يكون «المسبب» لتنفيذ القرار هو ما نسميه شيئًا «صغيرًا» أو «تافهًا».
مثلًا، أن تأخذ إنسانة ما قرار الانتحار يوم ٨ أبريل عام ٢٠٠٠، لأنها مريضة باكتئاب مزمن، لكنها «نفذت» القرار يوم ٦ يناير ٢٠٠٢. هنا يقول ألبير كامو إن الشىء «الجسيم» هو الاكتئاب المزمن، لكن شيئًا «صغيرًا» أو «تافهًا» هو الذى دفعها لتنفيذ القرار. ربما ألقى عليها أحد تحية الصباح بنبرة صوت لم تعجبها، أو أبصرت سحابة سوداء تمر بالسماء، أو اخترق أذنيها نفير سيارة عابرة أو زعيق ميكروفون.
أنا مقتنعة جدًا بأن المصائب والكوارث تحدث لأننا أهملنا أشياء نعتبرها «صغيرة» أو «غير مهمة»، بل إننى أعتبر أن «النضج» هو رؤية الأشياء «الصغيرة»، وأن «الحكمة» هى عدم الاستهانة بالأشياء «التافهة».
من بستان قصائدى
يتبرعون بالمليارات
لترميم الجوامع والكنائس
وغالبية سكان الأرض
جائعة.. بلا مأوى.. مريضة
يحاصرها المستقبل البائس
هل مشكلة البشرية
أنها لا تصلى بالقدر الكافى؟
هل ينتحر الناس
لقلة أعداد الكنائس والمعابد والجوامع؟