الحنين إلى الزمن القديم وعلامة التحذير
إنها ليست عادة يعتادها البعض ويتغلب عليها آخرون، بل هى جزء أصيل فى حياة الإنسان مهما كانت ظروف ذلك الزمان، سواء كان فى فقر وضيق، أم فى غنى وراحة بال، فالقديم يظل عالقًا فى الأذهان أكثر من تجارب الأمس القريب الذى تختلط مجرياته بالكثير من المشاهد والأفكار التى تحيط بنا، ومنها ما يمر مرور السحب العابرة. فالحنين إلى الماضى الذى قد يرتبط بقريب أو صديق أو زميل دراسة وإن افترقنا لأسباب مختلفة.
لكن يبقى الماضى بكل تفاصيله، بحلوه ومره، بنجاح أو بفشل، وبرغم الزحام والتزاحم وتعدد العلاقات وتقلب الأوضاع السياسية والاقتصادية، إلا أن الزمن القديم يبقى عالقًا فى أعماقنا، وليس من السهل الاستغناء عنه أو استبداله إذ يبقى الحنين إلى الماضى حقيقة علمية بوروده وأزهاره، أو بأشواكه وأشواقه حتى كلما تقدمت بنا السنون والأزمنة، وتغيرت المواقع وتباعدت الآمال، وملأ الشيب رءوسنا وباعدت المسافات بين الأصدقاء والأحباء بل والأشقاء، لكن يبقى تذكار الكثير من أحداث الطفولة، سواء الصغير منها أو الكبير، الإيجابى منها أو السلبى، فرغم كل شىء يبقى شريط الذكريات جزءًا أصيلًا من مخزون الأفكار والأحداث، فهناك ما يطلق عليه «توبوفيليا» ومعناها الشعور بالرغبة الملحة للعودة إلى الزمن القديم، والحنين إلى الماضى البعيد يعطى شحنة إيجابية لعقولنا، فذكريات زواجنا رغم أنها ماضٍ بعيد تظل عالقة بكل تفاصيلها، حتى بحاضريها وإن مضت على رؤية بعضهم أو معظمهم أعوام تطول بالعشرات، وتتسع المسافات حتى تبلغ فى بعض الأحيان قارات ومحيطات، إلا أن فى كثير من الأوقات قد يحن الزوجان لمراجعة الصور ورؤية أو سماع تفاصيل الحدث لأنه رسخ فى النفس والوجدان، فيجد الزوجان أنهما يراجعان صور ذلك الحدث المهم فى تاريخهما ويستعيدان سويًا الكثير من التفاصيل والمواقف مهما طال بهما الزمان، فتلك المراجعة من مميزاتها أنها تعطى شحنة يتجدد معها العقل والشعور والعاطفة لدرجة الرجوع إلى كل ما بقى من ذكريات، ومن شأن كل هذا أن يتجدد الفكر والشعور والعاطفة، حتى قيل إنه على كل الأزواج والزوجات مراجعة حلو ذكرياتهما مرة واحدة كل أسبوع، أما أن تبقى ذكريات المواقف السلبية هى الحاكمة والمسيطرة على الفكر والمشاعر فمعنى هذا أن تبقى مثل هذه الأفكار كمعاول حادة تهدم البناء مهما كانت قوته، وتكون النتيجة الحتمية هى زعزعة أركان البناء. وتأتى علامات التحذير فى البداية باهتة، ثم تتفاقم تدريجيًا دون التنبه لخطورتها لدرجة أن تصل للتجرد من المشاعر وارتجاج أساسات البناء حتى تبدو عليه علامات القدم، وتنقصه مؤشرات التنبيه التى تعلن «احترس البناء قاربَ على الانهيار، فبادر سريعًا وبكل جهدك وقوتك وعزيمتك على إنقاذ هذا الكيان الذى يمثل حياتك كلها». أما وكيف السبيل لإنقاذ السفينة من الغرق، فلنراجع الأمور الجميلة وما أكثرها للجادين والباحثين عن الإيجابيات لتحل مكان السلبيات والأزمات، وحتى تملأ الفراغ العقلى والوجدانى، وليحل حاضرنا ومعه غدنا حتى يمتلئ الفكر والوجدان بكل ما هو جميل، ومعه سيتبدى لنا جمال الحياة والطبيعة، وكل ما خفى مع ضبابية الأجواء. أنا وإن تغير المقاعد وأثره فى اهتزاز أركان البناء فيصبح سحبًا عابرة وهزات أرضية زالت ومعها الشقوق الغابرة مقارنة بالحياة الحاضرة وعلامة مضيئة تبدو وكأنها كانت غائبة تقول لا تفقد جمال حاضرك بالاستغراق فى ماضيك، لكن لا تنسَ الجميل فى ماضيك فعليه يستمر صرح البناء شامخًا لا ينحنى أو يهتز مع الأعاصير والرياح مهما بلغت شدتها. إن تذكر التجارب السابقة بشكل إيجابى يمكن أن يؤثر على حالة السعادة الحالية، وذلك وفقًا لدراسة جديدة. نظرت الدراسة فى السمات الأساسية للشخصية وحددت مدى تأثيرها على الرضا عن حياة كل شخص بالنسبة لكيفية إدراكه وتقييمه لماضيه. نظرت الدراسة فى الخصائص التى يمكن أن تصف الشخص بأنه متقبل لحاله، منفتح، متقلب المزاج أو عصبى. لقد فحصوا مستويات كل سمة أظهرها الشخص لتقييم تحليلهم. ففى دراسة تمت مؤخرًا كشفت الأدلة عن أن الأشخاص الذين كانوا أكثر استعدادًا لرؤية تجارب الحياة السابقة بشكل إيجابى كان نصيبهم أوفر فى السعادة، وأما أولئك الذين بدا أنهم يكافحون مع تقلباتهم المزاجية، فهؤلاء كانوا أقل شعورًا بالسعادة. «لقد وجدوا أن الأشخاص الذين يتمتعون بتقبل التغيرات مهما كانت كبيرة هم أكثر سعادة فى حياتهم، لأنهم يميلون إلى تبنى وجهة نظر إيجابية عن الحنين للماضى، وأقل ميلًا لترك الأفكار السلبية تتحكم فيهم أو للندم أن يحتل مشاعرهم». يقول ريان هاول، أستاذ مساعد فى علم النفس بجامعة سان فرانسيسكو الحكومية، ومؤلف مشارك فى الدراسة مع جيا وى تشانغ، كبير الخريجين فى جامعة ولاية سان فرانسيسكو، إن الأشخاص الذين يميلون للعصبية والحدة والتشدد فى فكرهم لديهم وجهة نظر غير راضية تمامًا عن الماضى، أى يرون ذكرياتهم بشكل سلبى، هم أقل سعادة نتيجة لذلك. وفى مقالة ذات صلة بهذه الدراسة ذكرت أنه على الرغم من أنه قد يكون من الصعب تغيير شخصيتك، إلا أنك قد تكون قادرًا على تغيير وجهة نظرك وتتصالح مع أهم الأحداث التى ألمّت بك فى حياتك فتنجح فى تعزيز سعادتك. إن البحث عن الذكريات الإيجابية والاستمتاع بها أو رؤية الخير فى التجارب السيئة يمكن أن يوفر أداة مفيدة فى مساعدتنا لأنفسنا على تحسين شعورنا بالرضا عن حياتنا. فقد أكدت الدراسات السابقة أن سمة الشخصية الأصيلة للشخص التى تلعب دورًا رئيسيًا فى تحديد الشعور بالرضا عن النفس أولًا وبالتالى الرضا عن الحياة بشكل عام، وكذلك فإن السمات الشخصية تؤثر فى نظرة الناس إلى الماضى والحاضر والمستقبل، ووجهات النظر هذه هى التى تدفع الشخص إلى السعادة والرضا.