هل يتصدع العرين الإيرانى فى العراق قريبا؟
وسط الهلال الشيعى الذى يضم أربع دول عربية؛ كما يحلو للإيرانيين أن يذكروهم دوما وقت الحديث عن خرائط النفوذ بالمنطقة، تظل العراق هى العرين لهذا الهلال الذى لا يضاهيه مكان فى الأهمية بالنسبة لطهران. لذلك فهى تولى اهتمام فائق بما يجرى هناك، وتقيم الأحداث الاحتجاجية التى تضرب شوارع بغداد والجنوب العراقى فيما يقارب الشهرين، باعتبارها خطر داهم استلزم تدخلها الخشن متعدد الأذرع، وفرض عليها تنشيط مراكز تأثيرها وتمددها، أمام مشاهد لم تدر بخلد ملالى طهران امكانية وقوعها فى يوم ما. محاولة السيطرة واحتواء الحراك الجماهيرى، أسفر حتى الآن عن أكثر من (٣٠٠ قتيل) وما يتجاوز (١٠ آلاف مصاب)، وهى فاتورة ثقيلة لا تزال مرشحة للزيادة، ولم ينضج أثرها الباهظ بعد. فالأحداث فى وسط الشارع وعلى منحنى التنامى، لا تعطى فرصة مريحة للحديث والتدقيق فيمن سيدفع ثمن الفاتورة، فضلا أن هناك فرزا واجبا لم يجر حول مكونات هذه الكتلة الكبيرة من الضحايا.
لكن من سيكترث بهؤلاء الضحايا، فى ظل تهديد أعمق صار على وشك أن يطال التواجد الإيرانى ذاته فى العراق، فعندما خرج الشباب العراقى فى الأول من أكتوبر الماضى، برزت من اللحظة الأولى حقيقة أن الحركة الاحتجاجية انطلقت من المناطق الشعبية فى بغداد، وهى المناطق التى تتشكل من غالبية شيعية، وتعد معقل القيادات والنخب للأحزاب الشيعية التى نشأت بعد عام ٢٠٠٣. الجسم الرئيسى لهذا الجمهور الغاضب؛ هم من الشباب الشيعة الذين حملوا السلاح متطوعين لقتال تنظيم «داعش»، ثم تركوه وعادوا إلى مناطقهم بعد إعلان تحرير العراق من التنظيم. هؤلاء هم من تعرضوا فى الأيام الأولى من التظاهرات، إلى نيران قناصة أحدثت بهم إصابات كثيرة، برصاص ظل مجهولا غير معروف المصدر، لكن الأمر تطور بعد ذلك، ففى الاسبوع الثانى من الاحتجاجات بساحتى «الطيران، والتحرير» بدأت الإصابات تطال الرأس والصدر، وغالبا ما كانت تودى بحياة المحتجين. لم يبق الرصاص مجهولا بالنسبة للشباب طويلا، فهؤلاء قادرين على فك شفرة من يستهدفهم ومن يقف وراءهم، فقد تشاركوا معهم قبلا ويعلمون أن مكونات «الحشد الشعبي» المتنوعة، تضم القادرين على أداء تلك المهام بل ومدربين عليها بمهارة.
قبلا تصدرت مدينة «البصرة» عاصمة الجنوب قيادة التظاهرات، التى كانت تندلع بين الحين والآخر، هذه المرة اندلعت من بغداد فى توقيت غير متوقع، ومن جماعات غير تقليدية دون قيادة أو صلة بتنظيمات سياسية. ظلت البصرة فى بداية الأحداث مشحونة ومتوترة لكنها صامتة، لتدخل على الخط بدلا منها مدينة «الناصرية» المجاورة، وتبعتها مدن قريبة أخرى. لكن ظلت المفاجأة أن «النجف» المدينة المقدسة التى يتواجد فيها مرجع الشيعة الأكبر السيستانى، شهدت احتجاجات واسعة جرى قمعها بصورة عنيفة وسريعة. حيث بدا شحوب النفوذ التقليدى للمرجعية الدينية بصورة لافتة، عندما لم تأخذ تصريحات مكتبه الاهتمام المتوقع من الشارع، لينكشف أنه بعيدا عن القدرة فى التأثير على مسار الأحداث بشكل كبير. فالأجيال الجديدة صارت لا تنظر إلى العمامة السوداء للمرجعيات بالقداسة التقليدية، بل أصبحوا يعتبرونها الآن هى القلب الصلب للنظام، ومن تضفى ستار من الحماية عليه. هذا دفع المشهد إلى التشكل فى اتجاه آخر تماما، عندما أطلق الشبان وسما بعنوان (المرجعية_لاتمثلني)، كما وجهوا انتقادا لاذعا للمرجع «مقتدى الصدر» بعد أن ظهر وقت اندلاع الاحتجاجات، عند قدمى المرشد الايرانى «على خامنئي» وإلى جانب الجنرال قاسم سليمانى، فالشباب قرأوها بأن المرجع الشاب الذى كان حلما للتغيير، صار كمن يتوسل العفو والرضا عقب أعوام من الإبحار بعيدا عن الشواطئ الإيرانية.
إيران دخلت هذا المسار من التقويض الظاهر لتواجدها، وهى دولة تشترك مع العراق بحدود يبلغ طولها ١٤٥٨ كم، وتتمتع بنفوذ سياسى واجتماعى واقتصادى غير محدود. فضلا أن لديها داخل العراق نحو (٤ ملايين مواطن)، مليون منهم طردتهم الحكومة العراقية عام ١٩٧٠، وأرسلتهم إلى إيران الشاه آنذاك. إضافة إلى ثلاثة ملايين عراقى لجؤوا إلى إيران بين أعوام ١٩٩١ - ٢٠٠٣، هربا من الهجمات والقصف الأميركى وما استتبعه من حصار وتجويع. هؤلاء جميعا بعد سقوط نظام صدام حسين فى ٢٠٠٣ دفعوا للعودة إلى العراق، حاملين معهم مشاعر الامتنان للمستضيف الإيرانى، والكثير من مهمات وواجبات التبعية. كما تعتبر إيران نفسها بمثابة الراعى الرسمى للمذهب الشيعى، والحامى للشيعة بالعراق، وهذا اعتبار معلن لقوة تغلغلها. لذلك أعادت بناء عشرات المساجد، كما استبدلت واستحدثت مقامات وأسماء جديدة لآل البيت غير المعلومة سلفا لدى الشعب العراقى، من أجل فرض سطوتها على مناطق عراقية بعينها. وتوسعت بصورة ملحوظة فى تسهيلات السياحة الدينية المفتوحة للعراقيين الشيعة فى إيران، فى مقابل ما يسمى بـ»الحجاج الإيرانيين» للعتبات المقدسة فى النجف وكربلاء، حيث ترسل سنويا ما يتجاوز مليونى حاج وأكثر من ١٥ ألف حافلة.
مؤخرا دخلت الولايات المتحدة بقوة، على خط تقويض النفوذ والتغلغل السياسى العميق لطهران داخل الطبقة السياسية الحاكمة فى بغداد وأربيل، وهى فى ذلك تحاول لملمة ما استطاعت إيران حصده خلال محطتين زمنيتين فارقتين، هما ٢٠٠٣ وقت الغزو الأمريكى واسهام إيران المحورى فى اسقاط وتحطيم نظام البعث العراقى، والثانية فى ٢٠١٤ فيما سمى بـ»الحرب على داعش». فى كلا المحطتين سمح الجيش الأمريكى لقوات مسلحة غير نظامية، بالتمدد وتنفيذ مهام عسكرية تحت بصرها. الأولى كانت عبر «فيلق بدر» والأخرى تمثلت فى «الحشد الشعبي»، وما جرى انجازه بالسلاح غير الرسمى الممول والمدار إيرانيا، مكن طهران بسهولة من حصد ثمنه بزرع الموالين لها فى رأس هرم السلطات الرئيسية. هذا ما حاولت واشنطن كشفه مؤخرا، بصب زيت التسريبات الهائل الذى نشرته الصحافة الأمريكية الشهيرة، على نيران الغضب الشعبى الموجه على ذات الشخصيات الواردة أسمائهم، باعتبارهم أباطرة الفساد والمسؤولون عن الانحراف الكامل بالحكم لصالح إيران. فهل تنجح حملة التقويض تلك فى العراق، التى تمثل درة تاج النفوذ الإيرانى بالمنطقة دون شك؟