دعوة لاكتشاف الذات
الحكمة الربانية تقول إن الإنسان يولد بصفات خاصة به دون سائر مخلوقات الخالق، حتى قال النبى القديم أيوب مخاطبًا خالقه: «لأنك أنت اقتنيت كليتى، نسجتنى فى بطن أمى، أحمدك من أجل أنى قد امتزت عجبًا، عجيبة هى أعمالك، ونفسى تعرف ذلك يقينًا».
فقد خلق الله الإنسان، كل إنسان، على أنه متميز كفرد دون مليارات البشر. منذ بدء الخليقة يولد الإنسان، ذكرًا أو أنثى، أشقر أو أسمر، فى مناخ شديد الحرارة أو شديد البرودة، إلا أنه إنسان متفرد لا يماثله آخر، فيا لقدرة الخالق وحكمته التى يقف أمامها الإنسان عاجزًا عن الوصف أو البيان. والتفرد البشرى ليس فقط فى خلقه، بل كذلك فى قدراته وإمكانياته واستعداده. فقد خلق الخالق فيه كإنسان، ذكرًا كان أم أنثى، إمكانيات يحتاج أن يدركها ويمارسها منذ أن بدأت مسيرته، أى منذ لحظة خروجه من بطن أمه، وما علينا إلا أن نمارس امتيازاتنا الممنوحة من الخالق لخليفته، مع مراعاة أن هناك أخطاء أو خطايا يمارسها الآباء ينتج عنها تشويه فى خليقة الخالق، أى إساءة إلى جمال خليقة الخالق فى أى عدوانية يرتكبها الوالدان ضد خليقة الخالق قبل أن تخرج للنور فى أشكال متعددة، وذلك فيما يتعاطاه الوالدان أو يمارسانه فى أثناء تكوين الأبناء، وهما لا يدركان أو يدركان لكنهما لا يباليان بما يرتكبانه من عدوان على خليقة الخالق، حتى إذا ما جاءت ساعة الانتقال من الرحم إلى الرحب، يكتشفان ما أصاب الزهور الجميلة من تشوه وعدوان لا يلومان فيه غير نفسيهما. ويستمر الآباء فى سوء التشخيص أو التوصيف، ملقين الملامة على القدر أحيانًا وعلى سوء الإدراك أحيانًا أخرى، فى محاولة لتبرير الذات والتخلص من المسئوليات التى يشترك فيها الآباء والأمهات، وتبدأ رحلة طويلة عسى يصلح العطار ما أفسده الدهر من قدرات فائقة يعجز البشر فى وصفها أو إصلاح ما أصابها.
يقول العلماء إن المخ البشرى يستطيع تخزين نحو مائة تريليون معلومة، وإن العقل فى قدراته يستطيع أن يفاضل بين نحو خمسة عشر ألفًا من القرارات التى تواجهه، وإن أنف الإنسان يستطيع تمييز نحو عشرة آلاف رائحة مختلفة، وإن لمسات البشر تستطيع التفرقة بين آلاف الأنسجة المختلفة، وإن لسان الإنسان يستطيع التمييز بين ملايين المياه المتعددة المصادر. وأمام هذا الوصف المتفرد به الإنسان خليقة الله الذى تفرد به عن سائر المخلوقات، إلا أن يُحمد الخالق الذى ميزنا بهذا الشكل العجيب.
هل فكرنا يومًا أن نقف أمام كل هذه الميزات لنحمد ونسبح ونشكر المولى الذى وهبنا كل هذه الميزات دون سائر مخلوقاته؟
أما السؤال الذى يفرض نفسه فهو كيف استخدم المخلوق هذه العطايا والهبات التى منحها إياه خالقه؟ هل يناشد خالقه مسبحًا «أحمدك يا خالقى لأنك ميزتنى عجبًا دون سائر خليقتك»؟.
أما لوقفة الإنسان أمام عظمة وحكمة الخالق فى كل صغيرة وكبيرة أوجدها الخالق فينا أن توقظ بداخله السؤال: فيم أنفقت أو استخدمت هذه القدرات فى حياتى على مدى امتدادها طولًا وعرضًا وعمقًا؟ وهنا يجيب المخلوق خالقه: لقد زرعنا وحصدنا، بنينا وسكنا، تاجرنا وربحنا، تزاوجنا وأنجبنا، قُدنا ودربنا ونجحنا، جادلنا وهزمنا، أنشدنا وأطربنا، صنعنا الأسلحة الثقيلة ودمرنا، حاصرنا وغنينا، ففُقْنا إعجابًا وطربًا، ولا ننسى أننا حصدنا وربحنا أمام الخراب نتاج الحروب والدمار، فقد وقفنا فشلًا وعجزًا بل قد تراجعنا، وعلى الآخر علقنا كل ملامة، ومن أخطائنا غسلنا أيدينا ووقفنا فى صفوف اللائمين والديانين، وللآخرين علقنا مشانقنا دون حياء أو خجل.
وكيف لا نقف فى صفوف المتفرجين أو الدائنين الذين يلقون كل المسئوليات على أشباح دعوناها «الآخر»؟ وكيف نخرج من دائرة أغلقناها على أنفسنا واضعين كل ملامة على وهم سميناه «الآخر»؟ فى علم النفس الصحيح ندرك أن الفرد هو الشخص الوحيد الذى يستطيع أن يستخدم قدراته وملكاته التى وضعها الخالق فيه، كما وضعها فى كل إنسان منفردًا ومتفردًا، وأعطاه كل الملكات التى تمكنه من اكتشاف قدراته، هذا من جانب، كما أن الحقيقة التى تفرض نفسها، أن الله خلق فى كل منا صفات متفردة، حتى إن تفرد كل منا عن الآخر قد فاق الحصر، كما أن ما يستطيع كل إنسان أن يفعله فى دائرة قدراته وبملء إرادته فهو يتوافق مع إرادة خالقه، والإنسان هو وحده وليس سواه القادر على فعله، فقد خلق الله فينا الإرادة والإمكانيات لفعل العمل بالإرادة الذاتية وبمعونة الله ومعيته، فقد منح الله الإنسان قدرات ورغبات يستطيع بها أداء المهام التى تتفق مع مشيئة الله وخدمة البشرية. ويبقى للإنسان الاختيار حتى يكون مسئولًا ومدانًا عن أى ضرر أو أذى يحدثه أو خير يمنعه بملء إرادته، وهنا تظل كلمة الله ناقوس الإعلان وسبيل الإعلام وصوت الإخبار عن مشيئته وصراطه على مدى الزمان.