Minsk تبتهج وتتوهج
فى الدورة الـ٢٦ لمهرجان Minsk كان المحتوى هو الأهم، وما عرضه المهرجان من أفلام، سواء فى مسابقاته، أو حتى خارج المسابقة، لا حفل افتتاحه وختامه فحسب، بل فيلما حفل الافتتاح والختام وأفلام البرمجة فى العموم كانت استثنائية حقًا بل مذهلة فى تنوعها.. لقد حققت تلك البرمجة شعار المهرجان حرفيًا ومن خلالها تحققت البهجة.. فالبرنامج حرص على انتقاء نوعية الأفلام التى تجعل المتلقى يحب السينما، ويقبل عليها دون أن يجور ذلك الجانب المبهج على جودة الأفلام، أو حرفيتها.
الأمثلة كثيرة على تلك البهجة، فمن الهند أبهجت بطلة العمل كل من شاهد فيلم «Chuskit»، ومن كندا كان فيلم «ACOLONY» وجبة بصرية تثرى العيون قدمت طرحًا إنسانيًا يتجاوز الحدود والأعراق والثقافات بتقديم طرح شديد العمق والعذوبة.
أما فيلم «rocca changes the world» الذى يتحدث عن تلك الفتاة الصغيرة- بطلة العمل- استطاعت تغيير العالم بل استطاعت جعل صباحنا يوم مشاهدة الفيلم من أجمل الصباحات وصنعت لنا يومًا جميلًا باقتدار، من خلال فيلم يمنح مشاهديه طاقة إيجابية وكمًا هائلًا من المشاعر الإنسانية وقدرًا استثنائيًا من التفاؤل والثقة فى المستقبل فكان الفيلم عملًا فنيًا جماهيريًا بامتياز أتى إلينا من ألمانيا ويستطيع وبكل تأكيد منافسة هوليوود والتفوق على ما تطرحه من أفلام تجارية غزت العالم وأفسدت ذوقه فى العموم.
أما الفيلم النمساوى «ليليان» والمأخوذ عن قصة حقيقية لفتاة روسية تدعى «ليليان» بدأت رحلتها الوجودية سنة ١٩٢٦ للوصول إلى روسيا من نيويورك سيرًا على الأقدام واستغرقت رحلتها حوالى ٤ سنوات، فلم يكن بأقل حال، حيث نجح الفيلم فى استعراض تلك الرحلة واستعراض كم المشقة والمواقف التى تعرضت لها ليليان وأنماط الشخوص والأطياف التى مرت بهم فى تلك الولايات القاسية.. والفيلم هو العمل الروائى الأول لمخرجه ولبطلته التى تعمل راقصة فى الأساس وهو تجربتها الأولى فى التمثيل، فهى تمثل لأول مرة فى حياتها ورغم ذلك حصدت كما حصد المخرج وحصد الفيلم عدة جوائز عالمية فى مهرجانات عديدة، وتم تصوير الفيلم فى ٩ أشهر بفريق عمل لا يتجاوز الخمسة أشخاص، وأحيانًا كان المخرج يقوم بالتصوير بمفرده مع بطلة العمل وبشكل ارتجالى- بدون سيناريو- ورغم كل ذلك استطاع الفيلم أن يصف وبعذوبة وواقعية سحرية وحساسية متناهية مسيرة تلك الفتاة الروسية التى جابت الولايات الأمريكية سيرًا على الأقدام لتصل إلى روسيا.. فقتلتها الحدود وقتلها البرد والفقر والغبن، وقتلتها العولمة والبروباجندا وأشياء أخرى.
فرحلت عن الحياة فى ألاسكا دون بلوغ هدفها لكنها عرت الكثير فى هذا المجتمع الأمريكى البلاستيكى الطابع وغير المتجانس والذى سطا على حقوق وأراضى الهنود الحمر والذين كان لهم تواجد فى الفيلم، وظهر موقفهم مما حدث لهم ويحدث من حولهم. وشاركت إيران بفيلم عنوانه (hairy tale) وهو فيلم كوميدى غير مسف يقترب فى تكنيكه من السينما الهوليوودية برتمها وإيقاعها السريع معتمدًا على الخيال والفانتازيا فى الطرح ويعد طفرة نوعية مستحدثة وجديدة على السينما الإيرانية الكلاسيكية دون أن يقلل ذلك من جودة العمل أو إتقانه، والفيلم هو العمل الأول أيضًا لمخرجه الشاب الذى ينتمى لجيل جديد فى السينما الإيرانية ومدرسة جديدة تطرح وتقدم تكنيكًا مختلفًا عما هو سائد، ويظهر فيه تمكن المخرج من أدواته واتباعه لنهج جديد قد يستطيع به أيضًا منافسة السينما الأمريكية ذات الإيقاعات المتسارعة التى يميل إليها جمهور الشباب.
ومن أوكرانيا تقدم مخرج فيلم «خواطرى الصامتة» بمعزوفة تصلح لأن تكون مرثية أو تتويجًا يوضع على رأس كل أم فى هذا الوجود، لقد أهدى المخرج فيلمه المبهج لأمه ولكل أمهات الكون عرفانًا وتقديرًا لهن وكأنه انحناءة أو زهرة قطفها المخرج لتمس وجوههن ورءوسهن وشفاههن فتقبلها.
أما الختام الأنيق والاحتفائى والذى جاء بسيطًا تمامًا كحفل الافتتاح فقد أنهى فعالياته بأفضل نهاية كان يمكن توقعها أو تمنيها، فقد اختتم المهرجان فعالياته بعرض الفيلم البرازيلى الاستثنائى «The invisible life of Euridice Gusmao»، والحاصل على العديد من الجوائز العالمية، من بينها جائزة خاصة فى مهرجان كان، وهو الفيلم الخامس لمخرجه «كريم إينوز» حاصد الجوائز والذى فاز وعرض أكثر من عمل له فى مهرجان كان وفينسيا، فهو مخرج استثنائى بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يستطيع جعل المشاهد يعايش أفلامه وكأنه جزء منها، ناهيك عن مقدرته الفائقة على التعبير عن مشاعر النساء والتحدث باسمهن والانحياز التام لهن بشكل إنسانى لا يمكن وصفه.. فالفيلم أظهر معاناة شقيقتين تعرضتا لغبن المجتمع وذكوريته التى مورست عليهما من أقرب الناس إليهما.. سطوة الأب التى فرقت بين الشقيقتين وانبطاح الأم للزوج، وخداع حبيب البطلة لها وخذلانها، وتسليم شقيقتها لزوج أنانى قضى لها على حلمها الشخصى بأن تصبح عازفة بيانو شهيرة وتسلم الراية من أبيها لكى يقصيها هو أيضًا عن شقيقتها، فقد سلمت الفتاة من الأب للزوج ليستمر فى قمعها وقمع حق تلك الفتاة فى اختيار ما تريده لنفسها وحياتها، بل وحرمانها من شقيقتها لتتفرغ له ولما يراه حقوقًا له دون النظر لحقوقها هى وما تريده أو ترغبه، حقوق المرأة هى آخر شىء يأتى لذهن هؤلاء الرجال فى الفيلم والذى استعرض نماذج متفرقة من الرجال فى مجتمع ذكورى بامتياز عاشت فيه الشقيقتان فى حرمان من كل شىء حتى من بعضهما البعض، حتى فارقت إحداهما الحياة وبقيت الأخرى، لتدرك فى النهاية وتحصد كم الغبن الذى مورس عليها من أقرب الناس إليها بسبب تلك الذكورية اللعينة التى قضت، بل ودمرت كل شىء، وللأسف هى مستمرة حتى الآن فى غالبية مجتمعاتنا ومازالت النساء تعانى وتناضل لمناهضة ما تتعرض له من غبن وذكورية تمارس عليها دومًا هنا وهناك وبمنتهى الأريحية.
لقد ترك الفيلم عظيم الأثر فى نفوس كل من شاهده، وكان حقًا مسك الختام والتتويج الحقيقى لعشرة أيام من البهجة عاشها جمهور مدينة Minsk ورواده لتظل تلك الذكرى فى الوجدان باقية ومنتعشة بفضل السينما التى تخلد لنا حكاوينا وحيواتنا وتزيدها ألقًا، وتزيدنا دومًا وعيًا وانتباهًا كى نستطيع حقًا إدراك ما يحدث لنا ونعيشه كل يوم، لنبقى ما استطعنا على المباهج فيه، ونناهض ما يضر بنا ويؤذينا ولا ينفع حتمًا أحدًا.