كيف بعد حضارة آلاف السنوات تقيدنا العواصف!
المشهد الأول:
«نحذر من الخروج إلى العواصف والمطر».. «الجو غير مستقر الزموا البيوت».. «المدارس والمحلات مغلقة لسوء الأحوال الجوية».. «مناطق تغرق من شدة وغزارة المطر».. «المواصلات معطلة بسبب المطر».
وقفت أتأمل هذه الأخبار أو التحذيرات وأنا فى شدة الدهشة والتعجب، فأنا يبدو من فصيلة أخرى غير فصيلة البشر، لأننى أخرج من البيت لأستمتع بهدايا الطبيعة، أرحب بالعواصف وأستبشر بالمطر لا أدرى كيف نسىء إلى أجمل الهبات وأروع النِعم.
نعتبرها عدوًا وهى أوفى الأصدقاء، نظنها شرًا وهى كل الخير، نراها انحرافًا عن المسار وهى الرجوع إلى الأصل وانعدال الأشياء، وإذا كانت بلادنا التى نتغنى بحضارتها منذ آلاف السنوات، لم تعرف كيف تتعامل مع العواصف وكيف تستضيف المطر، فهذه مشكلتنا نحن لا مشكلة العواصف ولا مشكلة المطر.
فى بلادنا يفضلون الخروج والانطلاق فى مواسم الحر والعرق والتراب والزعابيب الصفراء والزحام والجفاف، ألا يقولون «البيات الشتوى»؟، أنا على العكس فى الخريف وفى الشتاء أخرج وأنطلق وأسهر حيث كل الأشياء مغسولة معطرة هادئة موحية ملهمة لها ألف عبير ومائة رسالة وآفاق لا نهائية من التأمل، والحنين والتواصل مع النفس وحيث لارتشاف القهوة مذاق يجعلنى أنسى عالم الضجر والدم والجشع والشهوة.
أبتسم لأننى تذكرت فى هذه اللحظة ديوان الشِعر الجديد الصادر لى منذ أيام، وكيف أن عنوانه هو: «امرأة المطر والقهوة والضجر»، العنوان الذى يصفنى بدقة ويصف أهم ما فى حياتى.
المشهد الثانى:
ماذا أكتب والوطن لم يأخذ كفايته من العدل والأرغفة وحق الشهداء وحكمة المطر؟، ماذا أكتب بعد أن قرأت سطورًا سلفية صفراء تطلق فتاوى هدم التماثيل، ونكاح النساء الأموات؟
ماذا أكتب وأنا لم آخذ كفايتى من النوم ومن الحلم ومن القهوة؟ ماذا أكتب وأنا فى اشتياق لا يرتوى إلى البحر؟، علمنى البحر أبجدية المطر وكيف أكتب بلغة الماء، علمنى كيف أسبح وأغنى وأرقص مع الكلمات وكيف أقفز فوق الأمواج لألتقط الإلهام، هذا العام محرومة أنا من البحر، أختفى وسط تصحُّر القلوب والعواطف الرملية.. تعبت من الكتابة بعيدًا عن حكمة المد والجزر.
تعبت من الكتابة، فى وطن لا يزال يتحسس طريقًا إلى البديهيات، تعبت من اختطاف الأمنيات الثائرة، من السطو المسلح على الأحلام وقطع الطريق على لحظة هدوء منزوعة الميكروفونات. «الهدوء»، ذلك المستحيل الذى أضنانى البحث عنه فى بلدى، بالأمس لم أنم، فالليل كله محتل بأصوات فى الميكروفون فى سرادق عزاء وأنا منْ يعزينى فى وفاة الهدوء، وقتله بعمد وبدم بارد؟
وتعبت من الكلام فى السياسة، الملتف حول عنقى أينما ألتفت فى كل اتجاه لا شىء إلا الصراعات والأكاذيب والتحالفات السياسية، كلام السياسة يختلط بالهواء فأختنق، لا أريد أن أسمع شيئًا عن السياسة، لا أريد أن أقرأ شيئًا عن السياسة، لا أريد أن أرى وجهًا من وجوه السياسة، أريد أن أسمع صوت أسمهان فى سكون الليل، أريد أن أقرأ القصائد المحرمة والأفكار الممنوعة، وفى المساء أرى وجه الشمس المتأهب للرحيل على صفحة النيل.
بالمناسبة فى كل عام يوم ٢٢ أكتوبر يكتبون عن ظاهرة تعامد الشمس على وجه رمسيس الثانى فى أبوسمبل، يبدو أننى مرة أخرى من فصيلة غير فصيلة البشر، فأنا لا تهمنى هذه الظاهرة الكونية الفريدة والاحتفال بها كل سنة لم يغير من أحوالنا إلى الأفضل، ولم يجعلنا نفيق من المشكلات التى تتعامد على وجوهنا كل يوم. أعيش فى وطن فيه تتعرى الحدود وتتغطى النساء محاصرة برائحة القمامة ورائحة الدم، وطن متخم بالأوهام والميول العنصرية على الحدود، ينتصر جيشنا الباسل على أخطبوط الإرهاب، لكن أخطبوطًا آخر من التعصب والتطرف والداعشية المزاجية السلفية الإخوانية يعربد فى النفوس. أعتقد أننى أكتب لأنها وسيلتى للمقاومة، البعض يذهب إلى السياسة، لكننى اخترت أن أغير بالكلمات، أكتب لأننى لم أجد طريقة أخرى أجمل للموت أحافظ على لياقتى الأدبية، لأنها تمتعنى فى زمن يحرِّم المتع النبيلة ويسمح بالمتع الرخيصة.
أكتب حتى لا أنسى كيف يشدو الكروان وهو فى ذروة البكاء، وحتى أظل على صداقتى الحميمة بالأشجار وبالنصف المعتم للقمر.
أواصل الكتابة لأن احتياجى إلى أحزان الشعر لا يرتوى، أعرف أن المرأة الكاتبة تمشى على أرض وعرة هى ليست من النساء المفهومات أو المرغوبات.
أكتب لأتوج القلم مصيرًا للمرأة وليس أحمر الشفاه والكعب العالى، رغم إدراكى العلاقة الوثيقة بين الكتابة والانتحار.. الكتابة والجنون.. إلا أننى لا أتوقف عن الكتابة.
أكتب لأن اغترابى وآلامى أكبر من أن تعاش فقط لا بد أن يسجلها أحد وفى هذا العالم لا يسجلون، إلا القتال على كرسى الحكم وتواريخ الحروب وأسماء عاشقات الحكام والفائزات بجوائز نوبل والأوسكار، أين أذهب أنا وسط هذا الحشد؟
أكتب حتى لا أدفن مرتين، مرة فى التراب ومرة فى طرقات التاريخ المزور، أتشبث بالكتابة حتى أظل قادرة على التحليق حتى لو تكسرت أجنحتى، وكيف لا أكتب والكلمات هى الوحيدة فى هذا العالم التى تحبنى وتسأل عنى وتهتم بحالى؟
قال الشاعر الروسى يوفتتشينكو: «أقول كلمتى وأمضى»، وأنا أقول: «أقول كلمتى ولا أمضى».
الكلمة سر بقائى، هى السر الملقى على المشاع مثل الورود فى الحدائق، سر من شدة بساطته معقد وغامض ومحير. الكلمة سر بقاء الآلهة، لم نسمع عن إله ليس له كتاب، أتساءل: ماذا تجدى الكلمات فى حضارة الدم؟ هل تنفع الأشعار والأشياء فى انهيار؟ أتأمل الوجوه من حولى أرى الإحباط وخيبة الأمل وأسمع تنويعات على لحن اليأس.
إن الكتابة دائمًا خاصة فى عصر سريع لاهث متقلب متأرجح مثل عصرنا هذا، هى انتحار من شدة الاهتمام وليس من شدة اللامبالاة، وتشبه الدخول إلى أرض مفروشة بالألغام، لكنها تصبح أكثر ضرورة لأن الكتابة فى جوهرها فعل ضد ثقافة الهزيمة، الكلمة الواعية الثائرة تطلق سراحنا من سجون اليأس، الأمل قوة والكلمة المناسبة فى الوقت المناسب تشحن طاقتنا بالأمل من جديد تكسر الإحباط وتفتح النوافذ على نصف الكوب الممتلئ دون خوف من الفشل أو الجولات الخاسرة.
ما أجمل أن يمتلئ نصف الكوب بماء المطر، حيث الاستبشار بأن حضارة الماء لا محالة آتية فى الأفق.
المشهد الثالث:
الأحد ٢٧ أكتوبر يوم ميلادها.. أمى نوال السعداوى، التى علمتنى أن أسلحتى الوحيدة فى الحياة هى الكتابة، الإيمان بذاتى والاستغناء.
فى يوم ميلاد أمى «نوال» الأحد ٢٧ أكتوبر، سأهديها باقة من الورود التى تحبها، أقبلها على شِعرها الأبيض، أعدة لها الشاى، واحتضنها بكل العمر الماضى والآتى.. إليها أهمس: «كل سنة وأنت تقهرين كل الأشياء، وعن الجميع فى استغناء»، ويا ريت تستجيب السماء وتهدينى فى هذه الليلة بعض المطر.