إبراهيم الرفاعى.. حياة بطل واستشهاد قائد
بعد غدٍ السبت، ١٩ أكتوبر، تطل علينا ذكرى استشهاد أسطورة الصاعقة المصرية، الشهيد إبراهيم الرفاعى، الأسد الجسور والسهم الأصلب فى كنانة القيادة المصرية آنذاك، الاسم الذى كان نارًا، واتقد جمرًا على القادة الإسرائيليين وجنودهم.. أصابته صدمة كبيرة، وهزة عنيفة عقب نكسة يونيو.. وكان قراره قاطعًا: «طول ما أنا عايش لازم اليهود يخرجوا من مصر».. وهذا ميراثه من التقاليد العسكرية، عن جده الأميرالاى عبدالوهاب لبيب.
كانت لتنشئته الدينية، وتمسك عائلته بالتقاليد الإسلامية، أكبر الأثر على أخلاق الرفاعى وثقافته، إذ كان دائمًا ما يكرر لأفراد مجموعته «٣٩ قتال»، قبل كل عملية من عملياته الخاصة عبارة: «يا أولاد نحن نقاتل فى سبيل الله».. وهنا نقف معه، عند الفهم الصحيح للقيم الدينية، التى تضع كرامة الوطن وحفظ أراضيه، والذود عن مكتسباته وحماية ساكنيه، فى المرتبة العليا من الأهداف الإنسانية، وليس كما يراه خوارج هذا العصر «حفنة من تراب عفنة».
كانت حرب بورسعيد، التى اشترك فى معاركها عام ١٩٥٦، المحك الرئيسى الذى صقل الرفاعى. فهناك، وجد نفسه مقاتلًا وجهًا لوجه أمام الطغيان الإسرائيلى والعدوان الثلاثى، وكان هذا العدوان هو الفتيل الذى أشعل الشجاعة فى صدره، إذ هو بتركيبته النفسية شهم جسور ذو كبرياء، يأبى الظلم ولا يرضى بالضيم، فالتحق بفرقة المظلات ليكتسب مهارات وخبرات تؤهله لما وطّن نفسه عليه، حتى اختير لقيادة عمليات وحدات الصاعقة، وجاء فى التقرير الذى سبق هذه الترقية أنه «ضابط مقاتل من الطراز الأول، جرىء شجاع، يعتمد عليه، محارب ينتظره مستقبل باهر». وبعد هزيمة يونيو، قررت القيادة المصرية تشكيل مجموعة من الفدائيين للقيام ببعض العمليات الخاصة داخل العمق الإسرائيلى، ترد اعتبار القوات المسلحة المصرية، وثقتها بنفسها، وقهر الحاجز النفسى الذى خلفته الهزيمة، والقضاء على إحساس العدو الإسرائيلى بأنه جيش لا يقهر.. ولم يكن لهذه المهام الثقيلة إلا الأسد الغضوب إبراهيم الرفاعى، الذى اختار أبناءه بعناية، حتى تكونت أشرس وأعنف مجموعة قتال عرفتها الحروب عبر تاريخها الطويل، المجموعة «٣٩ قتال»، التى عبر بها الرفاعى قناة السويس أكثر من سبعين مرة قبل حرب أكتوبر، نفذ خلالها عمليات انتحارية تفوق الوصف، ويعجز عن إدراكها الخيال.. فكانت نيران الرفاعى ورجاله هى أول نيران مصرية تطلق فى سيناء بعد النكسة، بدأت بنسف مخازن الذخيرة التى خلفتها القوات المصرية إبان الانسحاب، وكان نجاح هذه العملية ضربًا من الخيال، بل كان المستحيل بعينه، ولكن الرفاعى ورجاله تمكنوا من الوصول إليها وتفجيرها، وظلت النيران مشتعلة فيها ثلاثة أيام كاملة.
وتتوالى عمليات الرفاعى الناجحة، ليست أولاها نسف قطار جنود وضباط العدو عند الشيخ زويد، ولا ثانيتها جلب ثلاثة من صواريخ أرض - أرض، التى تفننت إسرائيل فى إخفائها بعمق سيناء، ولا أسر الملازم دانى شمعون، بطل الجيش الإسرائيلى فى المصارعة، وإحضاره إلى القاهرة حيًا، حتى أحدثت مجموع هذه البطولات، رأيًا عامًا مصريًا مفاده: «أن فى قدرة القوات المصرية العبور وإلحاق الضرر بالجيش الإسرائيلى»، بل إنها بثت الرعب فى نفوس الإسرائيليين، حتى أطلقوا على الرفاعى ورجاله «كتيبة الأشباح».. حتى جاءت حادثة الثغرة فى الدفرسوار، وتقدم السفاح شارون ومعه مائتا دبابة من أحدث الدبابات الأمريكية، عبر الجسر الجوى الذى أمدت به واشنطن تل أبيب، ومعه لواء من جنود المظلات الإسرائيلية، يحميهم الطيران الإسرائيلى، للاستيلاء على مدينة الإسماعيلية.
وهنا، تم الدفع باللواء «٢٣ مدرع» ليواجه القوات الإسرائيلية، ولكن الدبابات الأمريكية والتغطية الجوية القوية كبدت لواءنا خسائر فادحة، مما أجبر القيادة المصرية على سحبه، فى هذه الأثناء دق هاتف مكتب الرفاعى، وكان السادات على الطرف الثانى، قال: السادات معاك يا رفاعى، تعالى دلوقتى حالًا، وكانت الأوامر أصعب ما قام به الأسد على مدار تاريخه: «الموقف خطير يا رفاعى.. مطلوب أن تعبر برجالك شرق القناة وتخترق مواقعهم حتى تصل إلى منطقة الدفرسوار، وتدمر المعبر الذى أقامه العدو لعبور قواته، وإلا تغير مسار الحرب كلها».. كانت الكلمات واضحة وحاسمة من القيادة.. وعاد الرفاعى إلى مجموعته وهو يحمل فوق كاهله عبء تغيير مسار الحرب.
يحكى على أبوالحسن، وهو أحد الرجال الشجعان فى مجموعة الرفاعى: «كانت الأوامر أن نعود إلى الإسماعيلية لتدمير المعبر الذى أقامه العدو، ودخلناها ورأينا الأهوال مما كان يفعله الإسرائيليون بجنودنا، وكان العائدون من الثغرة يسألون سؤالًا واحدًا: أنتم رايحين فين؟، فقد تحولت هذه المنطقة إلى ما يشبه الجحيم، ولكن الرفاعى لم يكن يعرف إلا اتجاهًا واحدًا، وهدفًا واحدًا، إيقاف التوغل الإسرائيلى».. دخلنا بمجموعة سيارات- يُكمل على أبوالحسن- وكنت أجلس فى السيارة الأخيرة، المُحملة بالذخيرة، ورأى أحد السائقين، ثلاث مواسير لدبابات تختفى وراء تبّة رمال، كان من بها ينتظروننا، بعد أن رأونا.
وصدرت الأوامر بالتراجع، ثم أدخلنا السيارات تحت الشجر وترجّلنا ومعنا أسلحتنا.. واستطعنا أن نكون فى مواجهة مباشرة مع دبابات العدو.. وهنا صرخ الرفاعى «الرجل بدبابة يا أولاد».. وانطلقت مجموعة الأبطال لتوقف الزحف الإسرائيلى، ومن هول ما كان منا تجاه العدو، ادعى شارون الإصابة فى رأسه، وطلب طائرة هليكوبتر لتنتشله من جحيم الرفاعى ورجاله، مما دفع الجنرال جونين، قائد الجبهة الإسرائيلى فى ذلك الوقت، إلى المطالبة بمحاكمة شارون لفراره من أرض المعركة.. واستطاعت المجموعة «٣٩ قتال» أن تفجر المعبر، وأن توقف الزحف الإسرائيلى.
فى اليوم التالى، أمر الرفاعى رجاله بأن يستعدوا لمعركة شرسة، فى محاولة منه لتدمير قوات العدو، وفوجئ الإسرائيليون بما لم يكن فى حسبانهم، فقد وجدوا وابلًا من النيران ينهال عليهم من كل اتجاه.. صعد أربعة من رجال المجموعة فوق قواعد الصواريخ، وكان الرفاعى بينهم، وبدأوا فى ضرب دبابات العدو، وبدأوا هم يبحثون عن القائد، حتى لاحظوا أن الرفاعى يعلق برقبته ثلاثة أجهزة اتصال، فعرفوا أنه القائد، وأخرجوا مجموعة كاملة من المدفعية لضرب الموقع الذى يقف فيه الأسد، ولم يهرب الرفاعى ولم يقفز من مكانه، وظل يضرب بشراسة حتى أصابته شظية أغرقت جسده بالدم، وعندما أبلغ زملاءه باللاسلكى، أن الرفاعى أصيب، سمعهم الصهاينة وعرفوا الخبر، وكانت فرحتهم لا توصف، حتى إنهم أطلقوا الهاونات الكاشفة احتفالًا بإصابة الرفاعى، الذى استشهد يوم الجمعة ٢٣ رمضان، وهو صائم، «فقد كان- رحمه الله- يأمرنا بالإفطار ويصوم هو».. هكذا أقر رجاله.
هذه واحدة من قصص البطولات فى حرب الاستنزاف ومعركة أكتوبر، لرجل عاش من أجل دينه ووطنه، وتحرير أرضه، يتقدم مجموعته فى جميع العمليات التى خاضوها، فعاش كبيرًا ومات عظيمًا وعمره ٤٢ عامًا.. ألا يستحق أن نقدم سيرته لتحكى هذا البطولات، فتكون نبراسًا يضىء لشبابنا طريقهم، ويدفع بهم إلى الإيمان بحب الوطن، والموت فى سبيله؟.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.