هل يعيش العالم فعلًا حربًا عالمية ثالثة؟
يرى بعض السياسيين والمؤرخين أن العالم قد بدأ بالفعل حربه العالمية الثالثة، فإذا ما راجعنا ما يحدث فى الشرق الأوسط من حروب إقليمية لأكثر من نصف قرن، حيث بلغ عدد القتلى والفارين من بلدانهم الملايين، بجانب الملايين التى تعيش الفقر وعدم الاستقرار ومحاولات الهروب بالطرق والوسائل العديدة مواجهين الموت هربًا من الموت- سندرك أن ذلك كله يجرى فى دائرة العالم الثالث، أى الدول الفقيرة والأقل تعليمًا.
وإذا ما أمعنا النظر سنجد أن العوامل العدائية من الجهل والفقر والمرض قد عقدت العزم على إنهاك قوى تلك الشعوب مع أنهم بسطاء المعشر كرماء الضيافة يقدمون الغرباء على أنفسهم وأهلهم وذويهم، ومع ذلك فقد ابتلوا فى أنفسهم من أنفسهم ومن تولوا حكمهم، حتى ضاقت بهم أراضيهم، وشحت عليهم مواردهم، ولم يبقَ أمامهم إلا التقاتل والتشنج ورفض بعضهم البعض، إما بدعاوى الدم ثأرًا أو بالإكراه فى الدين جهلًا أو بالتشاحن والتطاحن على فرصة عمل أو كسرة خبز.
إن عالمنا الثالث عاند بكل الإصرار بل والأفعال ألا يبقى إلا ثالثًا مكتفيًا بهذا الترتيب البديل عن تسميات أخرى أكثر حرجًا، وإلا ما حاول عبر السنين التى قاربت القرن من الزمان أهلنا الفرار من بلداننا إلى دول الجوار، التى كانت إلى وقت قريب أكثر حظًا من غيرها، وها هى أيضًا تصاب بلعنة أخرى غير ضيق العيش وهى الخوف والموت وإذلال النساء وترهيب الأطفال، فخرج الألوف بل الملايين إلى بلدان العالم الأول هربًا من الموت على أيدى الأهل والجيران إلى الموت بأساليب أخرى، غرقًا أو خنقًا. ولعل شحنة ما يزيد على مائة رجل وامرأة وطفل فى ثلاجة لحوم ليموتوا جميعًا خنقًا وبردًا وجوعًا لم يحدث حتى مع الحيوانات، فالكلاب فى الغرب لها مأواها وطعامها المعلب وطبيبها المباشر والمتابع لكل ما يعنّ لها.
لقد أدهشتنى صالونات حلاقة الكلاب والقطط، إنها صالونات راقية يقوم الحلاقون بتحميم زبائنهم وقص شعورها وفق لُب ذويها، أما أجر الزبون الواحد فيصل إلى خمسة أضعاف قَص شعر أصحابها.
وعودة إلى حال أهلنا وجيراننا فى الوطن العربى وباقى دول عالمنا الثالث، فليس أمام الشباب إلا الهروب من الموت أو الفقر. ولعل هذا يذكرنا بفرار نحو ستمائة ألف فلسطينى هربًا من معركتى ١٩٤٨ و١٩٤٩ وغالبية الفارين لجأوا إلى خيام فى الأردن ولبنان وسوريا وجهات عديدة أخرى.
وفى الفترة من ١٩٧٥ وحتى ١٩٩٠، وبسبب الحرب الأهلية فى لبنان، فقد هجر أكثر من نصف مليون وطنهم.
أما من بوسنيا فقد هجرها إلى النمسا نحو نصف المليون وإلى ألمانيا نحو ربع مليون، لينضموا إلى نحو مليونى تركى سبقوهم لذات السبب. وبين المليون والمليونين من الأفغان لجأوا إلى إيران وباكستان، ونحو عشرين ألفًا فى نيويورك، كما أن مليونى صومالى قيل إنهم طردوا من منازلهم بسبب الحرب الأهلية التى أعقبت سقوط نظام محمد سياد برى عام ١٩٩١.
ثم ماذا عن الحرب الأهلية وما خلفته من قتل وتشريد للأرمن والعراقيين الذين فاقوا الأربعة ملايين لجأوا أو هاجروا إلى باقى بلاد العالم.
وفى التغرب والتشرد والقتل لم يفترق المسلم من المسيحى من الأرمنى إلى الحبشى. السياسيون يقولون إننا نعيش بحق الحرب العالمية الثالثه عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، أى أن الحرب العالمية ممتدة، وواضح أنها لم تتوقف لسنوات طويلة وإن اختلفت أطرافها وتنوعت أدوات القتال فيها.
لماذا لا يرى العالم أنه يخوض حربه الثالثة؟ ربما لكونها حربًا باردة ونسبية، أو لكون أطرافها حتى الآن ليسوا هم أطراف الحربين الأولى والثانية. وقد نسمع مكررًا تلك الدعاوى التى كنّا ننشدها فى مدارسنا الأولية أن الغرب هو الاستعمار، وكتبنا وغنينا، وكنّا على قناعة فى حينها بأن الغرب يستعمر وينهب مواردنا ويأخذ بترولنا ويسعى دائمًا لإفقارنا وإذلالنا.
هكذا علمونا وأنشدوا وسلطوا الأبواق والحناجر، وإذا بالحال ينقلب رأسًا على عقب حتى صار العدو هو الجار والقريب وأبناء الوطن الواحد، وصار الجار يهرب من جيرانه، والذين أكلوا على مائدة واحدة بالأمس يتقاتلون اليوم، وكأن لعنة، ولا نقول إنها فرعونية، فالفراعنة منهم براء، إذ لم يكونوا قد عرفوا فِرَق اليوم ولا أسلحتهم، بل لم نسمع أنهم أكلوا لحم بعضهم مشويًا كما نسمع ونقرأ، حتى وصلت تلك الفواجع إلى المناهج التعليمية فى جهات عديدة ولسنين طويلة، وها هى قد أتت أُكلها ونضجت ثمارها ومحاولات علاجها ليست مستحيلة وإن كانت ليست سهلة وستأخذ سنين، هذا لو خلصت النوايا، واعترف الكل بأننا سقطنا فى مآزق وأشواك دامية نعيشها جميعًا، والعالم حولنا يراقب عن بُعد واستياء.
إننا لن نفقد إيماننا ولن نيأس من إصلاح ما أفسده الدهر، فإيماننا بالله أولًا وبجيش قيادته واعية ومصممة على تصحيح مفاسد دهر، وما علينا إلا أن نصبر ونعمل ونعى بكل الحرص ألا نكرر الأخطاء وألا ننقاد وراء سارقى أقواتنا ومروعى أحلامنا، ولنثق فى قادتنا ثقة الواعين والمدركين أن الوطن فوق الجميع، ومن أراد له النجاة فنحن جنوده، أما من يسير على خطى السابقين، فالحكم فى عبارة أزلية تقول «لا يحل لك أو لكم».
حفظ الله مصرنا لتعود الملاذ لمن لا ملاذ له، وسلة خبز للجياع، تحقيقًا للوعد السرمدى «مبارك شعبى مصر».