متى يعلن وفاة الاتفاق النووى الإيرانى؟
ربما لا تبدو هناك قضية شائكة فى اللحظة الراهنة، بقدر الأزمة التى تدور حول إيران، حيث تقف فى نقطة المنتصف لتواجه منفردةـ أو هكذا يبدوـ مجموعة من الأطراف، لكل منها مساحة السجال الخاصة بها معها، قد تختلف صعودًا وحدة، لكنها تجتمع على أن هناك الكثير الذى مازال عالقًا ولم يحسم، بل ولم تبد له إشارات يمكن الارتكان إليها. فمنذ اللحظات الأولى لتشكيل هذا المشهد، يجرى الشىء ونقيضه فى إخراج بارع، ورغم سخونة الأسطح العديدة للأزمة، يدور أسفلها جميعًا فى ذات الوقت جهد كبير لا يوصف سوى بأنه تبريد ممنهج، لذلك تظل إجابات المستقبل غائمة بالقدر الذى يفتح الأبواب على كل الاحتمالات وحضور مفاجآت التطور والتداعى لها هى الأخرى نصيب كبير لا تخطئه عين المتابعة اليومية.
أبرز وأخطر متغيرات هذا المشهد على تعقيداته المتنوعة، هو الاتفاق النووى الذى أبرم فى العام ٢٠١٥ ما بين إيران ومجموعة الدول «٥+١»، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ضمن الدول الخمس الأعضاء الدائمة فى مجلس الأمن، بالإضافة إلى ألمانيا. والذى يشمل تقليص النشاطات النووية الإيرانية، مقابل رفع العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة عليها لاحقًا، وبعد تولى دونالد ترامب وما يعتبر إطلاق رصاصة البدء لتلك الأزمة، جاءت الإدارة الأمريكية الجديدة لتعلن انسحابها الأحادى من الاتفاق، على خلفية عدم وفاء طهران بالتزاماتهاـ ربما غير المكتوبةـ فى هذا الاتفاق، واتبعت واشنطن ذلك بإعادة حزم متتالية من العقوبات فرضتها بصورة منفردة أيضًا على إيران مرة أخرى. اليوم مصير هذا الاتفاق فى مهب رياح عاتية غير مستقر الرأى الدولى فى توجهاتها. والأزمة تراوح مكانها ما بين استخدام تقييد قدرات طهران فى الاستفادة من عوائد النفط، وتهديد إقليمى تمارسه طهران بنفسها وعبر أذرعها من أجل إيصال رسائل متنوعة. ربما مجملها أنها لن تقف مكتوفة الأيدى أمام ما يراد دفعها إليه مرة أخرى، لذلك كان الرد على مجمل تفاصيل المشهد من جانب طهران، هو تجاوز الحدود المسموح بها فى تخصيب اليورانيوم وفق الاتفاق.
مؤخرًا بدأت الدول الأوروبية تحت الضغط الأمريكى، وأمام انسداد لبعض من جهود الوساطات، تلوح بأنها يمكن أن تلجأ إلى الانسحاب هى الأخرى من الاتفاق، حتى تعرضه للانهيار الكامل، إذا بقيت فيه روسيا والصين فقط كمؤيدين للطرف الإيرانى. هذا الأمر بدا وكأنه لم يزعج طهران كثيرًا، وقد عبر عن ذلك «صادق زيباكلام» الأستاذ بجامعة طهران، فى مقال نشر له بتاريخ ٣٠ سبتمبر، ذكر فيه أن إيران غير قلقة كثيرًا من الانسحاب الأوروبى من الاتفاق النووى، كما عبر عن اعتقاده بأن روسيا والصين تدعمان إيران، لكنهما لا تقومان بإجراءات جادة عمليًا تعزز هذا الدعم، لكنه لم يخف فشل إيران فى مساعيها الرامية إلى خفض ضغط العقوبات، حيث لم تحقق هدفها بالكامل، نظرًا لأن أمريكا بذلت أقصى جهودها لتمنع بيع النفط الإيرانى، أو على الأقل عرقلة بيعه. الأستاذ زيباكلام يعكس هنا الرأى السائد بصورة كبيرة فى الداخل الإيرانى، والذى يرى فى دوائر صنع القرار منه أن احتمال تنفيذ أوروبا لتهديدها بالخروج من الاتفاق النووى فى حال مُضى إيران بخطوتها الرابعة من خفض الالتزامات بالاتفاق، ضعيف للغاية. فالخارجية الإيرانية تتفق مع مكتب المرشد الأعلى فى أن مرجع هذا التقدير يعود إلى حاجة أوروبا الأمنية للاتفاق، فلن يكون بيدها شىء للسيطرة على برنامج طهران النووى فى حال الخروج منه.
طهران أيضًا تعتبر أن التهديد الأوروبى مغزاه الواقعى هو إجبار طهران على القيام بخطوة رمزية فى تلك المرحلة الرابعة، بدلًا من تطبيق التعهدات الخاصة بمنشأة «فردو». على اعتبار أن الأوروبيين مدركون أن إيران إذا ما قطعت خطوة واقعية جديدة، فلن يبقى الكثير من تعهداتها القائمة فى الاتفاق. فقد مثل خفض إيران بعض التزاماتها بالاتفاق النووى أداة مهمة منح طهران القدرة على المساومة مجددًا. وفى بعد آخر من المشهد يجبر السعودية لأن تنهى حرب اليمن بأسرع ما يمكن، درءًا لتحملها مزيدًا من الضغوط والأضرار، التى شهدت مؤخرًا تطورًا أخيرًا بالنظر إلى هجمات «أرامكو» التى جرت منذ أسابيع. هذا على خطورته وتقدمه يظل عرضًا جانبيًا لأصل الأزمة المحتدمة، والتى تعود إلى الأصل فيما يتعلق بالبرنامج النووى ونظيره متمثلًا فى برنامج الصواريخ الباليستية والذى يعكس هنا خروج المرشد الأعلى بين الحين والآخر ليقصر تعليقاته على مجمل الأزمة فى دائرة البرنامج النووى، ومشتقاته والتزاماته التى أصبحت السلاح الأهم فى إدارته للأزمة. فخامنئى فى أحدث تصريحاته يؤكد أن بلاده ستواصل خفض التزاماتها بموجب الاتفاق النووى المبرم فى ٢٠١٥ حتى يصل الاتفاق إلى «النتيجة المرغوبة»، وفق تعبيره والذى لم يوضح فيه عمدًا، ما هى تلك النتيجة التى يشير إليها.
هذا الحديث على خطورته جرى خلال اجتماع مع قادة الحرس الثورى، اعتبر فيه أن الولايات المتحدة الأمريكية فشلت فى الضغط على إيران، قائلًا: «كانوا يتصورون أننا سنضطر إلى المرونة أمام سياسة الحد الأقصى للضغوطات». هذا أعقب مباشرة ما أعلنت عنه الوكالة الدولية للطاقة الذرية من أن إيران أطلقت فعليًا عملية تخصيب اليورانيوم فى أجهزة الطرد المركزى المتطورة التى ركبت مؤخرًا، فى خطوة جديدة لخفض التزاماتها بالاتفاق النووى، حيث ورد فى تقرير الوكالة أن أجهزة الطرد المركزى المتقدمة التى وضعت فى موقع «نطنز» الإيرانى، بصدد تجميع اليورانيوم المخصب، أو على الأقل تستعد بصورة نهائية لتجميعه. هذه جميعها إرهاصات لاتفاق يجرى إعداد مراسم الدفن الكامل له، وقد يبدو أن إجراءات الدفن تستخدم فقط للمناورة من الأطراف فى وقت جرى فيه الإعلان المسبق عن «حالة الوفاة» غير المعلنة.