عن المفخخات الطيبة وصانعيها
لم يلفت الانتباه فى حادثة «التفجير»، التى وقعت أمام معهد الأورام بالقاهرة، تفصيلة من تفصيلاتها العديدة، بقدر ما أثارته لقطة «وداع» والدة الإرهابى المتورط فى تنفيذ العملية ابنها قبيل التنفيذ المدمر، الذى أودى بحياة الضحايا، وأوقع ما أوقعه من مصابين، فضلًا عن الخسائر الفادحة التى طالت مقرهم العلاجى.
نقل المقطع المصور بإحدى الكاميرات العامة، إيحاءً منطقيًا للمشاهدين بأن الأم بدت بأن لديها علمًا مسبقًا باعتزام ابنها القيام بعمل إرهابى، يلزمه الشد من أزره أو وداعه، بافتراض إقدامه على غياب له طبيعة ما. يستوى الأمر بالطبع إن كانت الأم على علم تفصيلى بالأحداث اللاحقة، التى جرى التخطيط لها مسبقًا داخل أروقة التنظيم، أم ظلت المعرفة محصورة فى مجرد المعرفة العامة. لن تغير أى الحالتين من المشهد شيئًا، بل ربما تتفوق الفرضية الثانية على الأولى فى درجة الخطورة والصدمة، باعتبارات الشمولية والتأييد المفتوح على بياض ما يمكن الوصول إليه من فعل «الإرهاب».
أثار مشهد الأم جدلًا إيجابيًا لدى الرأى العام المصرى، وامتد إلى المهتمين بملف الإرهاب بالخارج، وطُرحت أسئلة على قدر مهم من الاقتراب الصحيح، الذى يستهدف سبر أغوار ما يدور خلف ستار أحداث مشابهة من هذا النوع. فـ«الأسرة» التى تبدو داعمة هنا لمثل هذه الأنشطة المدمرة، أين يمكن تصور حدود أدوارها الواقعية فى صناعة «إرهابى» متكامل، مثل هذا الشاب العشرينى الملاحق من قِبل الأمن، لسابقة انخراطه فى تشكيل «طلائع الحسم»، التابع لجماعة الإخوان المسلمين. وهذا يضع افتراضًا محققًا بأن هذه الأسرة تمثل إحدى الأسر الإخوانية بصورتها «الكلاسيكية»، بالنظر إلى اشتراك شقيق الإرهابى المنفذ، فى ذات الخلية الجديدة المكلفة بارتكاب العملية الأخيرة. التفاصيل «التنظيمية» صارت نمطية إلى حد كبير، بالنسبة إلى الأجهزة الأمنية التى فككت العديد من شفرات «الحراك الإرهابى»، لأذرع الإخوان الإرهابية التى تدار من خارج مصر، ووجه الأمن لها العديد من الضربات الإجهاضية، وتمكن من الوصول إلى عديد من الخلايا، قبل تنفيذ عمليات أو بعدها، وأيقن بأن نشاطات مماثلة قد تكون مرشحة للتمدد زمنيًا، باعتبار انتهاج قيادات «حركة حسم» آلية تشكيل خلايا جديدة، بمجرد سقوط أخرى فى قبضة الأمن أو قدرته على الانقضاض على ملاذاتها، وضبط أسلحتها ومخازن المواد التى تصنع بها «العبوات الناسفة».
لذلك ليست مهمة هذه المرة، على الأقل، التفاصيل التنظيمية، بقدر ما تظل العودة إلى التفاصيل الحياتية هى الأكثر دقة وحساسية، حيث تستوجب تلك التفاصيل الكثير من الجهد لتفكيك هذه «الشراك الكامنة» ونظائرها، التى ستطرح لاحقًا «مفخخات شرسة»، بطعم الإقدام غير المفاجئ على انتحار سهل ومدمر فى آنٍ- فى مفارقة لا تخلو من دلالة تزامن وقوع الحادث الإرهابى الأخير، مع أخبار استعادة كل من «ياسر برهامى» و«عبدالله رشدى» موقعهما، فى القيام بالخطابة، كل فى المسجد المخصص له بمعرفة وزارة الأوقاف. بالنسبة إلى الأول جرى الحديث عن مجموعة من الضوابط والتعهدات، التى جرى إلزامه بها للسماح له باعتلاء أحد المنابر بمدينة الإسكندرية. والثانى ذكر أنه سُمح له بعد فترة عقوبة وقعت عليه، من قِبل المراقبين والمفتشين الإداريين أوقفته عن العمل لأخطاء مهنية ومسلكية، بدا أنه قد تجاوزها بصورة أو أخرى، مما سمح له بالعودة إلى العمل. المفارقة والأمر هنا فى حد ذاته لا يمس شخصيًا كلا الرجلين قطعًا، بقدر اعتبارهما مجرد نموذجين من عشرات الآلاف الذين يمارسون هذه المهنة، ليبقى طرح التساؤل الأهم، عن تفاصيل دور المسجد فيما نحن فيه اليوم؟!.
الغالبية العظمى لا يمكن اعتبارها على نهج هذين النموذجين، لكن الخطير أن «ألفًا» واحدة من تلك العشرات، قادرة على صناعة تدمير ممنهج لكل الأدوار المفترض القيام بها داخل جنبات المساجد المظلومة بالصمت أو «الحيرة» على أقل تقدير. الخطورة مكمنها المباشر؛ أن نجومية هذا النموذج استطاعت أن تشكل نفسها داخل دائرة «تعصب» غير مباشرة. باصطناعها خطابًا يدور فى فُلك «نصرة» مضللة للدين، عابرة ومتجاوزة الدين ذاته، أو بـ«خبث» شديد منتقية منه ما يخدم الطرح أو الدائرة الجهنمية، التى يدور فيها هذا الخطاب الذى لا يوجد أسهل منه للتسلل إلى هوى المستمعين، الغافلين عن الخيوط العنكبوتية التى تنسج بدقة وبدأب حول حياتهم ونمط إدراكهم للدين، ليصبح الأمر ليس مجرد «خطبة جمعة» عابرة ربما يتلقون غيرها، بل تبقى هى المعادل الموضوعى حال التفكير فى الله والدين وعرض الحياة بكاملها. بالعودة إلى المفارقة؛ وإلى والدة الإرهابى التى احتضنته فى حنان غير معلوم طبيعته وهو يمضى إلى فعل «النصرة» المزعومة، لنجدنا أمام ما يمكن اعتباره المنتج النموذجى لتلك الصناعة الناعمة. فالأم حقيقة لا تجد أى غضاضة فيما تشكل داخل وجدان ابنها من كراهية عميقة لكل مَن حوله، بدليل إقدامه على فعله «الانتحارى» مرضاة لله ورسوله. وهى تمضى فى سريرتها وبعضٍ من علانيتها، تتمنى له التوفيق والسداد فى سعيه، حيث سبقته هى بأشواط على الطريق ذاته من الكراهية الثابتة التى تملكتها، حتى باتت تمثل لديها يقينًا، له ما يؤكده من حولها فى كل فعل أو مشهد يدور من حولها. هذا ربما يفسر امتلاك جماعة الإخوان «سردية» خاصة بهم، لكل الأحداث التى تجرى فى فلك دوائر العام والخاص، وهى روايات وتفسيرات تمّكن البناء الفكرى المضلل من إفساح المجال لتمريرها بسهولة، قد تبدو فى بعضها أقرب إلى العجب. مثلما طغت فى بعض مراحل الأزمة العميقة التى تتملكهم، فرضية أن النظام «المصرى الحالى» هو صانع الإرهاب، وأنه يقوم بقتل ضباطه وجنوده بغرض واحد هو الوصول إلى مبرر لـ«اضطهادهم»!.
كبار قادة الجماعة؛ قد يعلمون بعضًا من أسرار تلك الخدعة العريضة، لكن الكارثة الحقيقية تكمن فى هذه الشريحة العريضة، التى تقع الأم المذكورة فى وسطها تمامًا، وهى الشريحة التى صدر بحقها قرار ضمنى بالترك نهبًا لحديث المشايخ والوعاظ، الذين يجيدون تمهيد الأرض و«العقول» أمام القادمين لاحقًا، للإمساك بتلابيب الوعى المغدور، كى يضعوه على طريق المفخخات واللعب بالنيران، من أجل «نصرة» الدين الذى تكفل الله به وفق قوله الكريم منذ قرون، ولا ينتظر من أتباعه سوى الاستقامة والاعتصام بالعمل وعمارة الأرض ومكارم الأخلاق. وبقدر ما تغيب تلك الرحابة العقائدية عن حديث هؤلاء المشايخ، فى وقت نحن أحوج ما نكون إليها اليوم، وفق فقة الواقع وما يتهددنا، بقدر ما سنظل أمام صناعة هادرة للآلاف من «المفخخات الطيبة» التى تسعى بيننا، تربى الأبناء وتعدهم سرًا وعلانية ليكونوا حطبًا لوقود الكراهية. تمامًا كأم أخرى؛ تصحب ابنتها فى فرح وحبور «مذهل» إلى قاعة محكمة، كى تزفها إلى إرهابى «متحقق» قابع خلف قضبان محكمة، لا ترى الفتاة والأم قبلها من تفاصيل المشهد برمته شيئًا استثنائيًا، فالكارثة أنهم بالفعل يصدقون، حيث لم يتقدم لهم أحد إلى اليوم بيد «الإفاقة» من تلك العقيدة، أو أن يكون هناك سبيل يحطم دائرة إنتاج تلك المفخخات، التى تضمر من عمق الكراهية القادرة على تصديرها مغلفة بالدعاء والابتسامات الحانية.