رحلة البحث عن راحة البال
لا شك أن تعبير راحة البال هو مطلب ومغنم يشتاق إليه المرء مهما اختلفت الجنسيات أو اللغات أو الانتماءات، فالحاكم فى حكمه يستعرض ما قضى به فى يومه حتى يهنأ فى نومه، متطلعًا إلى غد أفضل وسعيًا أكثر ملاءمة. والباحث العلمى يعانى من ضغط عصبى أو إرهاق نفسى وعقلى ووجدانى يصيب خلاياه النفسية ولا يهدأ حتى يحقق مقصده، فيقدم ناتج بحثه فى صورة دواء لمريض أو نفع للإنسانية قد لا يمتد به العمر ليرى على أرض واقعه ما قدمه للبشرية.
لكن كل ما يدركه هو ناتج علم ناله عَالِمٌ فحوّله إلى مادة محسوسة وملموسة فى صورة وسيلة أرضية أو مائية أو جوية حتى حولت استخدام الإنسان الوسيلة الحيوانية- أو من استرقاق أخيه فى الإنسانية- إلى دابة تحمل وتنقل وتحرك الأغراض، وقد ذكر فى سياق النصائح والحكم التى صيغت ليتعظ بها الناس وليتجنبوا العراك أو التقاتل وسفك الدماء: «من سخّرك ميلًا فاحتمله حتى ميلًا آخر، ومن أراد أن يسلب منك الثوب فأعطه الرداء أيضًا». فالعطاء هنا من باب القوة لا الضعف أمام لجاجة الطالب. إن الله الخالق فى حكمته خلق الإنسان ليكون سيد الخلائق، والمنتفع منها والقادر على التصرف والاختيار والقبول أو الرفض، مع مساحة واسعة من التنوع، ومن بين هذه الخيارات الواسعة ما هو نافع للفرد والجماعة وما هو ضار لكليهما، ومع اتساع مساحة التعددية كان عقل الإنسان هو الذى يعين على الاختيار، وعليه تقع النتائج إن غنمًا أو غرمًا، أما وأن الإنسان فهو مالك لمساحة واسعة من الخيارات برجاحة عقل أو باندفاع عاطفى لا عقلانى، فيقع فى الاختيار الأسوأ وعليه تحمل نتائج ما اختار.
وليس له أن يلوم إلا نفسه إذا كان اختياره من وازع أنانى أو لمطمع يعرف مسبقًا عاقبته، وعلى سبيل المثال هناك قصة رجل كانت كل أمنياته أن تفتح له أبواب الرزق من أوسع الأبواب، حتى صار له ما تمنى، إذ جاءه ملك يطلب منه أن يدلى بما يتمناه مهما بلغ مطلبه، فالمعطى أى الملك بيده أن يحقق له كل شىء مهما كان، ولكن قبل أن يقول الفقير طلباته كان لدى الملك شرط واحد هو أن جاره الفقير المعدم ذا الأطفال سوف يعطيه ضعف ما يطلبه السائل، وهنا طلب وقتًا للتفكير، فهذا معناه أنه إذا طلب قصرًا، فسوف يعطى جاره قصرين، وإذا طلب قدرًا من المال مهما كبر قدره سيعطى جاره الفقير المعدم ضعف ما يناله هو، وهنا قرر الرجل أن طلبه هو أن تؤخذ منه عين حتى يصبح بعين واحدة، أما جاره فسيصبح أعمى إذ ستؤخذ منه عيناه الاثنتان، وبذلك يكون قد فاقه!. وهنا وأمام قسوة الإنسان وكرهه الخير للآخرين نرى كم هى رحمة الله الفاصلة، على النقيض من مطامع البشر بالأحقاد والكراهية. لقد خلق الله سبحانه الإنسان على أفضل صورة وقصد بنا الخير، وأراد لنا السعادة، منتظرًا منا الرفق بالضعيف، والعطف على الفقير، والأخذ بيد المريض، وكان التحدى أمام هذا الإنسان أن يحب كل خليقة الله، فهو أراد التنوع فى اللون، أبيض أو أصفر أو أسود، وليس للجبلة المخلوقة أن تعترض على جابلها، بل على العكس الأسود سعيد بلونه ولا يطلب تغيرًا فى لونه، وهكذا الأبيض أو الأصفر، أما الضمير والعقل والروح فكلها لا خلاف لها فى اللون، ومن لا تعجبنا ألوانه قد يفوقنا فى العديد من الأوصاف والأخلاق، حتى إنه لو كان له أن يختار أن يغير لون جلده لرفض، فهو سعيد بما ولد وعاش به. ومن تابع أقوال الراحل الدكتور مصطفى محمود وهو يتحدث عما بداخل الإنسان يجده يشير إلى ما سماه «النظافة الداخلية»، ويحذر من القذارة النفسية المطلوب إزالتها كالشهوات والتوافه والخزعبلات، حتى إنه أشار إلى ضرورة التخلص من النزوات، مشيرًا إلى القول «يأتى الخير من قلب المعاناة، والصحة هى السائدة والمرض ابتلاء والخير منطوٍ فى مواجهة الشر، والزلازل تعيد الأرض إلى التوازن، وقليل من شر فيه خير باطن». ويضيف الدكتور مصطفى محمود أنه فى حلم رأى اثنين من الأصدقاء هما جلال العشرى مع شوقى عبدالحكيم يمشيان معًا فى حوار معين فى ساعة متأخرة فى شارع حدده فى حديثه، واعتبر ما رآه حلمًا، وإذا بها حقيقة تدل على الجلاء البصرى والسمعى. والجلاء البصرى هو نشاط فى الغدة الصنوبرية فى الدماغ «العين الثالثة» وهذه الغدة تكون نشطة عند الأطفال وتبدأ فى الضمور عند البلوغ وتبقى عند الذين يفقدون بعض الحواس المادية مثل البصر أو السمع أو النطق، وبنسبة فى كائنات أخرى كالثعبان الأعلى، وتكون كحلقة اتصال بين العقل الباطن والظاهر. وللجلاء البصرى فوائد كثيرة، فقد وصفوه بأنه باب المعرفة الكامل، وأن من يملك الجلاء البصرى يملك جميع الحواس الأخرى مثل السمع والشم واللمس والتذوق، ومن يملك هذه الحواس يصل إلى قمة الإبداع والتميز. أهم ما يميز الإنسان هو التمييز بين الخير والشر، بين الانصياع وراء رغباته أو تحكيم العقل والضمير ليخضع فكره وقوله وفعله لمشيئة خالقه سبحانه، الذى خلقه على أفضل صورة وقصد بِه الخير له ولكل الإنسانية.