رحل فارس السينما وناسكها
مثلما يرى الناصرى أن عبدالناصر هو عمود الخيمة، يرى السينمائى أن يوسف شريف رزق الله هو مصدر المعرفة والثقافة السينمائية الأول فى مصر، فالسينما العالمية بالنسبة للمواطن المصرى، كانت هى ما يقوله ويحكى عنه يوسف شريف رزق الله فى برامجه.
عشق المصريون السينما على يديه، وتوقفوا عن عشقها عندما توقف الفارس عن الوقوف أمامهم ببساطته ورقيه المعرفى، وطلاقته فى نطقه للغات الأجنبية- كما ينطقها أهلها- بل وتواضعه ونبله الجم الذى يلمسه الجميع. فكان هو الإعلامى والناقد السينمائى الأوحد الذى يعرفه رجل الشارع والجمهور غير المتخصص. خسارة يوسف شريف رزق الله على الصعيد السينمائى فادحة، أما خسارته كمصدر ووجه جماهيرى يثق فيه ويحبه الجماهير ويصدقونه، فهى خسارة لا تعوض.
لقد جعل يوسف شريف رزق الله السينما وجبة خفيفة مشبعة وصحية تتذوقها الأسرة المصرية كل أسبوع.. وجعلها أيضًا نزهة أليفة لكل أفراد الأسرة على اختلاف أعمارهم وثقافاتهم فى زمن كان الإعلام مصدره واحد ومعروف وهو الدولة، وكان ذلك كافيًا وشافيًا للجميع، لم يكن الإعلام يجمل شيئًا.. كان الإعلام إعلامًا جميلًا قيمًا دون مؤثرات تؤذى العيون والآذان أحيانًا.. وكان من يظهر على الشاشة يصدقه الكل. فلم تكن هناك دول أو جهات أو أحزاب أو كيانات تمول تلك الشاشة لتحارب غيرها، أو تستهدف نشر ثقافة ما لهدم أخرى.
لم يكن الضباب يخيم على فضائنا، ولم تكن الأرباح المادية فى حساباتنا كما هى اليوم. كان البياض طاغيًا على كل أسود.. وفى تلك الأجواء غير المغرضة وغير الملتبسة والمليئة بالشفافية، ظهر الرجل غزير المعرفة ذو النوايا البيضاء والثقافة العميقة والقلب الأخضر الذى لم يذبل، ليحدثنا بشغف عن السينما وليخلق الشغف بداخلنا لهذا الفن بمرور الوقت.. وبمنتهى النعومة والدفء تسلل إلينا حتى أشبعنا وشبعنا بالجمال، فصرنا نشعر تجاهه بعاطفة عريقة لم تخب مع الزمن، بل كانت دومًا ما تتأكد وتتأصل، وتكون جيل كامل يصنف اليوم بـ«جيل الوسط»، جيل أحب السينما على يديه وصار متذوقًا لها.. جيل علمه رزق الله أسمى معانى الجمال والرقى والنزاهة، جيل تربى على أن النقد السينمائى لا علاقة له بالارتزاق والتربح والدعاية والسمسرة.
جيل نظيف ينتمى بالكامل لسينما يوسف شريف رزق الله، وهذا الجيل يقف اليوم حائرًا ما بين منظومتى قيم.. منظومة تشربها على يدى الفارس النبيل ومنظومة أخرى لا يعرفها أوجدها وفرضها أنصاف ومبتسرون جُل أمانيهم التربح. جيل جديد يحب المال حبًا جمًا بعد أن فشل فى أن يحب نفسه ويحب السينما.. فخطفت هؤلاء الأضواء الزائفة، وغرتهم أجواء السوق وآلياته وماراثون المهرجانات المحموم والجوائز المالية الموجهة والمبيعة سلفًا، والمنح والدعم والتمويل وصارت الشللية، هى طريق النجاح.
هكذا حال أباطرة النقد السينمائى الجدد والمشتغلين فى المهرجانات وشركات التوزيع الخارجية التى تريد السيطرة على المجال السينمائى، وسوق الفيلم المصرية والعربية، وإن بدت البسمات على وجوه البعض منهم فى حفلات الافتتاح والختام وهم يرتدون ملابسهم الأنيقة التى تجعلهم يبدون فى عمر أصغر بكثير من أعمارهم الحقيقية، فى إعلان صريح منهم بأننا جيل الشباب المسيطر الآن على مقاليد اللعبة السينمائية والممثلون الشرعيون الوحيدون للسينما فى مصر والعالم العربى، بل والعالم كله! ورغم كل ما سبق.. فعيون هؤلاء بما فيها من نهم وقح ينم عن جوع وعطش للمزيد من الغلو والسيطرة وتحقيق المكاسب وتسديد الضربات والطعنات للبعض دون تردد دومًا ما تفضحهم.. فتلك الأحصنة الجامحة التى تسير كالرهوان بلا تؤدة ولا هوادة وبجنوح يثير الشفقة والغثيان فى آنٍ واحد حتمًا إلى زوال.
أما ترك الحبل على الغارب لتلك الثقافة البراجماتية القائمة على مبدأ الشللية والأقرب فى تكوينها لفكرة العصابات، فهى مسألة غاية فى الخطورة وستنسحب حتمًا على ثقافة ومنظومة القيم فى المجتمع ككل. فالسينما أداة من أدوات التغيير والحراك الاجتماعى.. وبعد أن راح النبيل وراح معه زمن النبل، لا بد من اليقظة والحذر والتصدى لذلك الجنوح وضبط إيقاع الأشياء، بل وضبط البوصلة على وضعها الصحيح.