شموع ودموع.. قصة حقيقية
وأنا أفكر فى مقالى الأسبوعى ولا أدرى سببًا فى ترددى أمام أكثر من موضوع، وإذ بى وأنا أقلب أوراقى.. توقفت عند رواية ليست من خيال مبدع، بل قصة حقيقية، وقعت على أرض تبعد عن بلادنا، ولكنها تقول الكثير عما يتكرر فى كل عصر، وفى مصر، وهذه القصة كتبتها زوجة ابنى الكبير فى يوم الأحد الموافق الثالث من فبراير من عام ألفين وثلاثة عشر، ومع مرور الأعوام لم تزل هذه الواقعة مؤثرة حتى وضعت لها هذا العنوان: شموع ودموع.
تحكى صاحبة الرواية قائلة: «كنت أسير فى أرجاء محل كبير بقصد التسوق عندما لاحظت موظف تحصيل أثمان المشتريات، ولفت نظرى طفل لا يتعدى عمره الخامسة أو السادسة، وسمعت موظف التحصيل يقول للطفل: آسف، فأنت لا تملك ثمن هذه العروسة يا صغيرى، فنظر إليه الطفل متسائلًا: هل صحيح أن ما معى لا يكفى لشراء العروسة؟، وتقول السيدة أخذت ما معه لأعده وقلت له هذا صحيح فأنت لا تملك ثمن هذه العروسة. إلا أن الطفل كان لا يزال ممسكًا بالعروسة فقلت له لمن تريد أن تقدم هذه العروسة؟.
قال الطفل إنها العروسة التى كانت أختى تحبها جدًا وتتمنى أن تحصل عليها فى عيد ميلادها، وأنا أحب أن أشتريها وأعطيها لأمى لكى تهديها لأختى عندما تذهب إليها لتكون مع الله، فأمى ذاهبة إليها حالًا، وقلت لأبى لا تدعها تذهب بسرعة قبلى، أنا محتاج لها، قال أبى لكنها ذاهبة لأختك، فقلت لأبى لا تدعها تمضى سريعًا قبل أن أحضر العروسة لأختى. ثم أخرج الطفل صورة له من جيبه قائلًا سوف أعطيها صورتى لتعطيها لأختى حتى لا تنسانى، وتعطيها العروسة فى عيد ميلادها بعد يومين. ثم قال الطفل: أنا أحب ماما (قوى) وكنت أحب ألا تمضى وتتركنى، لكن بابا قال: لا يا ابنى هى لازم تسافر لتكون مع ربنا ومع أختك كمان، ثم قال الطفل: ماما ستأخذ صورتى معها والعروسة كمان لأختى عشان هى لازم تكون مع أختى».
تقول السيدة أخذت ما معه وأضفت بسرعة بعض النقود وقلت له تعال نعد النقود مرة ثانية ونرى هل تكفى لشراء العروسة أم لا؟ قال الطفل كنت أتمنى أن أشتريها لأختى قبل ما تسافر أمى إليها، وبدأنا نعد النقود، هكذا قالت السيدة إنها تكفى لشراء العروسة وأيضًا شراء بعض الورود، وهنا قال الطفل أشكرك يا ربى لأنك أعطيتنى نقودًا كافية لأشترى هدية أختى وأيضًا وردًا لأمى، فهى كانت تحب الورد الأبيض.
وتكمل السيدة القصة وتقول: لقد خرجتُ من السوق إنسانة أخرى غير التى دخلتها، ولم أستطع أن أبعد الطفل الصغير عن ذاكرتى، وتذكرت أن الجريدة المحلية منذ يومين بها قصة عن سائق مخمور كان يقود عربة نقل صدمت سيارته سيدة شابة وطفلتها الصغيرة، وماتت الطفلة فى الحال ونقلت الأم فى حالة خطيرة إلى المستشفى، ووضعت تحت جهاز لتحفيز ضربات القلب، وكان على العائلة أن تقرر استمرارها تحت هذا الجهاز أم فصلها عنه «مما يعنى أن تفارق الحياة»، لأن السيدة لم تفق من الغيبوبة.
كانت هذه السيدة هى أم الطفل الصغير، وكان الإعلان هو عن جنازة الأم.
وتضيف السيدة لقد ذهبت إلى الجنازة ومعى مجموعة من الورد الأبيض، وهناك كانت ترقد الأم، حيث إن من عادات أبناء هذا البلد أن يرقد المتوفى فى تابوت مفتوح أثناء الجنازة حتى يودعه الأهل والأصدقاء، وعلى جسدها الورد الذى اشتراه طفلها وصورته فى يدها، وفى اليد الأخرى العروسة الجميلة التى أهداها الطفل لأخته التى كان قد سبق دفنها.
وتضيف السيدة قائلة: لقد خرجت من الجنازة وقد تغيرت حياتى كلية بسبب هذا الطفل الذى أحب أمه وأخته.
لقد تغيرت حياة السيدة مائة وثمانين درجة، فلم يكن يعنيها من قبل حدث أو حادث ولا حتى حديث، فكل ما كان يعنيها هو مظهرها اللائق ونزهتها الأكثر جمالًا وراحة. يعنيها أفخر الثياب وأجمل الأماكن لتزورها، ثم بيتها وبعض أصدقائها ثم أقرب الزميلات والزملاء. هذا شأن الإنسان الطبيعى الذى يعيش لِذاته ولَذّاته، ماذا يلبس وماذا يأكل؟. كانت تفتقر هذه سمات الإنسان رقيق القلب مرهف المشاعر، الذى يهتم بالغير كاهتمامه بنفسه وبيته وذويه، ليس مثل من يعيش ليأكل ويشرب وغدًا يموت، بل يعيش ليعطى ويعلّم لا بالكلام، بل بالقدوة وبأسلوب حياته. ليتنا نضىء فى عالمنا كشموع، نعطى البسمة والسندة والتشجيع لمن هم فى أمسّ الحاجة للكلمة أو اللفتة الحانية، نبكى مع الباكين، كما نفرح للفرحان.