على المحارة
بعد ثورتين مارسنا خلالهما الكثير من المناوشات، وأحدثنا فى حوائط الظل التى تحيط بنا وبالوطن بعض الخربشات، عند ملامسة مخالب القطط الأسطح، ظهرت المساوئ والعيوب التى كانت خافية عن الأعين، وراكمها الزمن على تلك الأسطح المطلية، والتى بهت طلاؤها بمرور الزمن، وأصاب بنيتها العطب، ولم تعد تقوى على الصمود، لم تكن بالقوة الكافية ولا بالفاعلية المؤثرة على العكس، مما يظن البعض.
الأزمة تجسدت فى غايات الحراك وتوجهاته، فهو لم يتبن منذ اللحظة الأولى إحداث تغيير جذرى فى البنية الأساسية للوطن، جُل أمانيه وهدفه كان السطح، لقد تعالى صانعو ومحتكرو الحراك على أهداف الحراك الأساسية، وتشدقوا بشعارات ترددت على ألسنتهم.. حدثوا الجموع عن ضرورة الديمقراطية ولزومية تداول السلطة، قبل أن يعلموها ماهية الديمقراطية، وكيف تمارس بل وقبل أن يمارسوها هم بأنفسهم، وقبل أن يستوعبوا هم أن الديمقراطية وسيلة لبلوغ هدف أسمى يجعل من أى حراك ضرورة، دون أن يعرفوا إلى أين يسيرون ولماذا لم تكن هناك بوصلة لمن سموا أنفسهم بالقادة؟.. فضلّ الحراك طريقه، لقد سرنا فى طريق خلناه مقدسًا وأضفينا على شخوصه ومن دعوا إليه قدسية تعلو على قداسة الوطن دون أن نعى هدفنا. فعفوية اللحظة كان لها جمالها وطزاجتها.
ولكن إلى أين؟ وماذا بعد؟ فلم نجد وجهة لمسيرتنا، اكتفينا وفرحنا وغرتنا المسيرات الليلية والنهارية الاستهلاكية، وأهدرنا فيها وقتًا وطاقات. كان علينا تنظيم مليونيات داخل عقولنا، كان علينا غزو العقول قبل الأراضى وإسقاط المطلقات قبل السعى فى تغيير ما هو نسبى. فقانون السيرورة كفيل بتغيير النسبى ولكن من سيغير المطلق؟
لن ينوب شخص ما مكانك، لإحداث ذلك التغيير ولن تصل لوجهتك دون بوصلة لمسيرة التى سيشارك فيها الملايين فى الاتجاه المخطط له سلفًا. لقد فرحنا بكشط الأسطح ووضع طلاء جديد عليها فاقع لونه. لقد أخفينا الثقوب والشقوق بلصق أوراق فوق ذلك الحائط العتيق، وخططنا بأيادينا المدربة أحيانًا رسومات أبهجتنا، وترك البعض الآخر الحائط وعليه آثار الخدوش، معتقدًا أنه قد حفر فيها ما لن يزول، فى حين أن تلك الخدوش والثقوب ستملؤها الأتربة حتمًا، وسيظل الحائط قائمًا ولن يسقط.. فالريح لم تكن بالقوة الكافية.. وكانت الرياح محملة بالأتربة.. فلم تغير ولم تسقط ما يستحق السقوط.. ما سقط كان مجرد قشرة خارجية رقيقة فرح بها وهلل لها المهللون، أما ذلك الحائط العتيق الآيل للسقوط، سيلفظ الطلاء يا سادة عاجلًا أو آجلًا. تلك هى قوانين السيرورة، تتمزق أوراق الحوائط من جديد بمرور الوقت، وبفضل عوامل التعرية التى لا شأن لنا بها ولا تدخل فيها.. فتلك هى سنن التطور. مصر فى حاجة ماسة لتغيير جذرى. مصر تحتاج لعملية قلب مفتوح وتغيير جميع شرايينها التى يسير فيها حاليًا ماء عكر، رغم أن النيل هو منبعه ومصبه.. مياه النيل صارت غير صالحة للشرب ولا للاستخدام الآدمى. مصر فى حاجة ماسة لمتخصصين فى تحلية وتنقية المياه لتكون صالحة للشرب. المصريون يتجرعون اليوم سُمًا وضع لهم فى كل شىء، بعد أن تسممت المنابع والأراضى. التغيير الحقيقى هو الذى يسبر أغوار الأرض، لا أن يناوش على سطحها. لقد صارت المناوشات هى المعارك، إننا نحارب أنفسنا لإسقاطها، الرصاص نوجهه لصدورنا بعد أن فسدت أسلحتنا وفسد عراكنا، لا يعرف أحد اليوم لماذا تحركنا وعلام كان كل ذلك؟ وأحدث الحراك حالة من الاغتراب، فاتسعت الفجوات فيما بيننا وأصبح الشقاق يسير فى اتجاهين، الأول جنح للجمود غير مستمتع بما هو كائن.. ولم تعد لديه ذرة إيمان بما يمكن أو يجب أن يكون، والآخر سار بالحراك فى غير وجهته.