الصوم في غالب المعتقدات والأديان
يُعرف الصوم بأنه الامتناع عن الطعام والشراب عددًا من الساعات، وعددًا من الأيام تختلف من ديانة إلى أخرى ومن عقيدة إلى أخرى فى الديانة الواحدة، والصوم هو إحدى الشعائر الدينية والفلسفية الروحانية المرتبطة بالإنسان الذى يسعى للتجرد من المادة والاهتمام بالطعام من جانب، والتفرغ للعبادة والصلاة مع مشاركة الفقراء الذين ليس لهم ما يسد رمق جوعهم من جانب آخر، والصوم يكاد يمارس من كل أبناء البشرية مع الاختلاف فى الشكل والمواعيد، وما يجب ألا يؤكل وما هو المتاح لهم من أنواع الطعام خلال فترة الصوم المقررة، وفق العقائد والديانات المتعددة.
وفى داخل الديانة الواحدة، مع اتفاق الجميع بالصوم، فإن البعض يمتنع عن كل ما به أرواح كاللحوم ومنتجاتها كالبيض والجبن والزبدة، والبعض يصوم طوال النهار ويأكل ويشرب معظم ساعات الليل دون تفرقة فى نوعية ما يتناول من طعام وشراب. ورغم اختلاف مواقيته وفلسفته، فإن تعريفه ومقاصده تكاد تكون على اتفاق، ففى الصوم يشعر الصائم بالجياع الذين ليس لهم ما يشبع جوعهم، وفى فترة الصوم يحاول الصائمون ألا يقعوا فى أخطاء سواء بالكلام أو الأفعال، فالصيام بالنسبة لهم إحساس بجوع الجياع، وكذلك صون النفس والعقل واللسان من الخطأ.
حتى إن بعضهم يعتكف عن المخالطة والاحتكاك بالآخرين حتى لا يتعرض للخطأ بالقول أو بالفعل، وبذلك تصبح فترة الصوم والاعتكاف تدريبًا على السلوك القويم ليس لفترة زمنية محدودة، بل أسلوب حياة دائم، ففى بعض العقائد المسيحية يمتنع الصائم لعدد من الساعات عن الكلام مطلقًا.. حتى إن أحدنا- وقد كان شديد الالتزام بهذا التدريب الذى يطلق عليه نوعًا أقرب إلى الموت بأسلوب الصمت الملزم- إذا شعر بتوجيه لوم لزميل بسبب ارتكاب خطأ ما، فى حين أن هذا المعتكف هو من أخطأ، ولكنه ما زال فى فترة الصمت فما كان منه إلا أن يشير إلى نفسه موضحًا أنه هو المخطئ وليس الآخر الذى وُجّه إليه اللوم، هكذا وصلت به درجة الالتزام والخلق القويم.
ويختلف عدد أيام الصوم من عقيدة إلى أخرى فى الديانة الواحدة، فالأقباط الأرثوذكس يصومون معظم أيام السنة، فالصوم الكبير يبلغ أكثر من خمسين يومًا فى السنة، لهذا أطلق عليه «الصيام الكبير»، ثم صيام الرسل وهو لمدة أربعين يومًا، وصوم السيدة العذراء مريم الذى يمتد لفترة أسبوعين، يضاف إلى هذا العدد الكبير يومان أسبوعيًا، الأربعاء والجمعة، وصيام ثلاثة أيام هى عدد الأيام التى قضاها يونان النبى فى جوف الحوت. أما صوم الكاثوليك فيقل فيه عدد الأيام قليلًا عن الأرثوذكس، ولكنهم يشتركون فى غالب المناسبات.
أما الإنجيليون، فهم أيضًا لديهم إيمانهم بأهمية الصوم كتدريب للنفس والتفرغ للعبادة ومشاركة من ليس لهم والصلاة لا سيما فى مواجهة المخاطر والعنف وتجربة الانتقام إيمانًا منهم بأن النقمة لمن بيده السلطان وهو الخالق العظيم الذى بيده العقاب بقوله «لى النقمة أنا أجازى»، ومنذ بداية الإنسان عرف معنى الصوم كتجرد من المادة بهدف النقاء الروحى، عرفته الحضارات القديمة قبل الأديان الإبراهيمية كمحاولة الامتناع عن الأذى وتنقية الذهن وعف اللسان ليس فقط فى أيام الصوم، بل من تدرب على ذلك طوال فترات الصوم يصبح هذا له أسلوب حياة لكل أيام العمر، فمن يعف لسانه طوال مدد الصوم لا يقبل أن يلوثه باقى أيام عمره، وإلا كان متمردًا، يقول ما لا يفعل، ناسيًا أن الله سبحانه كاشف القلوب والنوايا يعرف توجهاتنا وأسلوب حياتنا ومشاعر القلوب قبل تعبير اللسان، لهذا يسمعنا القول «أعطنى قلبك، صن لسانك عن الشر وشفتيك عن النطق بالغش، حِد عن الشر واصنع الخير...».
والتاريخ يرينا أن الصوم كان تدريبًا أكبر من مجرد الجوع، بل هو صون اللسان عن التكلم بالغش أو الخداع أو قلة الحياء، ومن درّب نفسه على هذا السلوك سيجد نفسه مترفعًا عن أخطاء اللسان طوال العمر مع ضبط النفس واحترام خليقة الله حتى فى تعامله مع غير العاقل منها، ومن يتابع أو يسافر إلى بلاد الغرب يشاهد كم يحترمون الطير المغرد والحيوان الأليف كالقط والكلب بالدرجة التى يظن البعض أن هذه المخلوقات تلقى معاملات أفضل من بعض البشر، ومن مشاهدة لم يمض عليها وقت رأيت السيدة تقف فى طابور بأحد البنوك الأمريكية وهى تحمل كلبًا صغيرًا لا يتعدى وزنه كيلوجرامًا واحدًا، ولما طال انتظارها خرجت من الصف شفقة على هذا الكائن الذى تحمله على أمل المحاولة فى وقت آخر رفقًا به.
ولهذا كان الصوم هو محاولة لتهذيب النفس والكف عن الأذى وتنقية الذهن ليس فقط فترة الصوم، بل كل الحياة، وما أقرب هذه الحياة إلى الحياء.. وهناك من يمتنعون عن أكل اللحوم والأسماك، وقد قابلت أستاذًا لنا بعد عودته من بلادنا إلى وطنه هولندا ودعانى للغداء لكنه لم يطلب إلا طعامًا نباتيًا، ولما سألته عن سبب امتناعه عن اللحوم بأنواعها وحتى الأسماك كان رده غريبًا بالنسبة لى، فقد قال: «كيف أمتع نفسى بهذه الأطعمة على حساب كائنات أخرى تموت»، ولما قلت له: «وماذا عن النبات، قال هناك فرق بين أرواح تقتل ونبات ليس به روح»، وكان لنا جدال عن تنفس النبات، لكن هكذا اختار النباتيون ألا يكونوا سببًا فى قتل حيوان، فماذا يا ترى يرون فى ذبح البشر بسلاح بارد ظنًا منهم أنهم ضالون وقتلهم واجب، ناسين قول الحق «لى النقمة أنا أجازى»، و«من أنت أيها الإنسان حتى تدين عبدًا غيرك، هو لمولاه الذى يدين والذى يبرر؟».