وقائع حرب تكسير العظام التكنولوجية
فى منتصف مارس الماضى، نشر الموقع الشهير «BUSINESS INSIDER» من نيويورك بالولايات المتحدة، تقريرًا يحمل، إذا جاز التعبير، إطلاق أول قذائف الحرب التكنولوجية التى ظلت مستعرة تحت الرماد منذ عامين تقريبًا، ما بين الولايات المتحدة والصين فيما يخص تقنية الـ«5G»، وهى الجيل الخامس من تقنيات نقل وتداول المعلومات. والأمر فى هذا الجيل لم يقف عند حد المعلومات وحدها، بل وهو الأهم، له ارتباط وثيق بالتوسع الكبير فى تطبيق «إنترنت الأشياء»، حيث يتاح بموجب التقنية الجديدة، الربط الشبكى للمعدات والأجهزة الإلكترونية المختلفة ببعضها البعض، لتصدر وتتلقى المعلومات بشكل دائم.
الأمر الذى يعنى بوضوح أن من يسبق إلى سوق شبكات الـ«5G» سيسبق إلى إنتاج الأجهزة والخدمات المرتبطة بها. هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن هذه الشبكات والأجهزة المرتبطة بها ستظل تمثل قاعدة معلومات كبرى وواسعة تتحول تلقائيًا إلى عنصر حاكم من عناصر القوة الشاملة. فالبيانات اليوم تعد بمثابة المادة الخام الأساسية للثورة الرقمية، وهذا يفسر المقولة الأكثر ذيوعًا اليوم فى سوق الأعمال، «إن من يمتلك أكبر قدر من المعلومات، يستطيع أن يقابل السوق بأفضل الخدمات، ويصنع بكفاءة ومرونة حاجات ومتطلبات السوق، فضلًا عن الهيمنة».
وعن عنصر الهيمنة، الذى يمثل المحور الرئيسى و«العصب» العارى الذى ألهب حدة هذا السباق، كشفت تفاصيل تلك التقنية وإمكانيات هذا الجيل الجديد، أنها لن تقف عند حد التأثيرات التكنولوجية والاقتصادية على أهميتها، لتتعداها إلى السياسة، وصولًا إلى المضمار الأخطر وهو التقنيات العسكرية والأمنية. فاليوم والعالم أصبح ينظر إلى الـ«Big Data» باعتبارها واحدة من المفاصل الأساسية للقوة والهيمنة، لا يملك أحد القدرة على كبح جماح الدول التى لديها طموح خوض سباق من هذا النوع. وقد اقتحمت الصين مؤخرًا هذا المضمار، فى وجود استباقى مثير بموقع متقدم من تكنولوجيا الـ«5G»، لتبدأ وقائع الحرب الضروس التى نشهد فصولها اليوم فيما بينها والولايات المتحدة الأمريكية، حيث تمتلك الأخيرة هى الأخرى بنية أساسية لا يستهان بها، وتؤهلها أيضًا بجدارة لخوض سباق تكنولوجى، ما لبث أن استعر داخل جدران شركات المعلومات العملاقة، الرابضة داخل مجمع الـ«Silicon Valley»، الذى يعد، حتى الآن، عاصمة الكون الرقمى.
الصين أدركت منذ بداية هذا السباق أنها، لا محالة، قادمة على خطوة الاصطدام بهذا العرش الأمريكى الرقمى، وهذا يعيدنا إلى التقرير الهام لـ«BUSINESS INSIDER»، الذى جاء بصدر عنوانه أن شركة «Huawei» الصينية العملاقة للتكنولوجيا طورت نظام التشغيل الخاص بها كخطة «B»، فى حالة منعها من قِبل الحكومة الأمريكية من استخدام منتجات «Google» و«Microsoft»، وهو القرار الذى اتخذته الحكومة الأمريكية كأمر تنفيذى من الرئيس دونالد ترامب، بعد شهرين من الإعلان الصينى. كما جاء بالتقرير أيضًا أن محرك البحث العملاق «Google» قد انصاع لهذا الأمر فور صدوره، وقد تكفل التقرير بالتوضيح للقارئ ما يعنيه ذلك إذا كان يملك هاتف «Huawei»، بالتأكيد أن شركة «Huawei» للتكنولوجيا طورت نظام تشغيل خاصًا بها، يمكن أن يحل محل نظامى «Google›s Android» و«Microsoft›s Windows»، فى حال منعه من استخدام منتجات أمريكية الصنع، وفقًا لتقرير صدر مؤخرًا عن صحيفة «Die Walt» الألمانية.
ورغم أن المتحدث الرسمى باسم «Huawei» لم يرد على طلب «BUSINESS INSIDER» للتعليق على التقرير، إلا أن الشركة الصينية ماضية منذ هذا التاريخ فى مقاضاة الحكومة الأمريكية، لعدم السماح لمسئوليها الفيدراليين باستخدام معدات الاتصالات الخاصة بالشركة الصينية بسبب المخاوف الأمنية، حيث ذكرت الشركة أن الحكومة الأمريكية فشلت حتى الآن، فى تقديم أدلة تثبت الادعاءات الأمنية، وأن الولايات المتحدة تتصرف بطريقة غير دستورية.
وقد كشفت تلك الخطوة، أن «Huawei» تعمل على بناء نظام التشغيل الخاص بها منذ عام 2012، وكان الإفصاح عن إكمال هذه الجهود غير معروف من قبل، حتى تقرير «Die Walt» الألمانى الأخير.
ربما هذا ما ظل مخفيًا؛ لكن امتلاك الصين اليوم خطة «B» تعمل عليها منذ 2012 وقد اكتملت فعليًا، ليس هو وحده الذى يضع الصين اليوم فى هذا المربع من الاستهداف الأمريكى، إنما أنه بينما قامت الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية بخطوات مهمة للاستعداد لـ«5G»، إلا أن أحدًا لم يقم بما قامت به الصين، حيث أصبح عدد مواقع تخديم الشبكة المطبقة فى الصين قرابة «عشرة أضعاف» العدد المطبق فى الولايات المتحدة، وبالحساب الرقمى نحن أمام 1٫9 مليون مقابل 200 ألف.
وقد تطلبت هذه النقلات النوعية فى الصين حجمًا ضخمًا من الإنفاق، فـ«Huawei» منتج معدات الاتصالات الأكبر عالميًا، أنفقت 600 مليون دولار على أبحاث «5G» منذ عام 2009، كما دعمت هذا بأكثر من 800 مليون دولار إضافية فى العام الحالى وحده، بعد أن بدأت تختبر معدات الجيل الخامس مع شركات الاتصالات الأوروبية فى بريطانيا وألمانيا.
كما امتلكت «Huawei» والشركات الصينية الأخرى 10% من براءات الاختراع العالمية فى مجال التقنية الجديدة، مقابل 15% لدى الشركات الأمريكية، أما الشركات الأوروبية الكبرى التى لم تتخلف هى الأخرى عن السباق، لكن ربما باستراتيجية أخرى غير المتبعة من قِبل الولايات المتحدة، مثل نوكيا التى تمتلك 11% منها، وإيركسون التى لديها حصة تقدر بـ8%.
ما يجعل الأمر بالنسبة للصين عملية حرب استراتيجية لتكسير العظام، ولن تتخاذل فيها أيضًا الولايات المتحدة، هو أن بكين بدأت فى ربط «مشروع الحزام والطريق» بالبنية الأساسية التكنولوجية الجديدة، فهو يتضمن فيما يتضمنه إتاحة الربط عبر شبكات «5G» بين النقاط الأساسية على الطريق، ما يعنى عقود بنى تحتية واسعة للشركات المؤهلة للعمل على تلك التقنية، عبر امتدادت هائلة فى آسيا وصولًا إلى إفريقيا وأوروبا.
لذلك فإن الأمريكيين معنيون بأكثر من غيرهم بعرقلة هذا التقدم الصينى بكل الوسائل الممكنة، عبر إغلاق الأسواق فى وجهها، أو من خلال ما بدأ يصل إلى مسامعنا من عظام تتحطم دون هوادة، ودون النظر إلى أى من قوانين أو اعتبارات السوق الحرة المزعومة.