البهلوان والسيرك
فى السيرك المنصوب حاليًا يقوم بدور البهلوان الجاسوس الذى صدق كذبه، فصدقه المغيبون شخص لسان حاله يخبرك بأنه جاسوس ولأنه قال لك ذلك أحببت أنت الجاسوس وتغضب ممن يسميه لك باسمه الحقيقى تحبه وتصدقه، وهو يمسك بالمسبحة التى يعبث بحباتها، وهو يقوم بعد عبيده الغافلين، لقد أحب البهلوان حالة الهرج التى يحدثها السيرك بتنويعاته وألوانه الفاقعة، أتقن كذبه الفج الزاعق، فأحب لعبة الكذب وكلما أحبها أكثر أتقنها، وكلما أحبها وأتقنها أحببته أنت وصدقته. نحن نصدق أعداءنا، نعتقد دومًا أن العدو يحبنا ونحبه نحن، ونلعن أشقاءنا فى الإنسانية إن قاوموه.
لقد أحببنا البهلوان وسيركه المنصوب، لأننا نرفض الاعتراف بالواقع وبحقيقة البهلوان. نحب الكذب ونجنح إليه ونود احترافه، ونسعد إن احترفه غيرنا، لا يهمنا الصدق بقدر ما تهمنا الأشياء الزاعقة. نحب الشكليات وكل ما هو براق من الخارج، ونذوب فى بدلة الجاسوس العسكرية، وتصير لها وله مصداقية نعاف بدلتنا العسكرية، ونقبل عسكرتهم هم ويسعد البعض بوضع الفلسطينيين فى سجن كبير سيتسع لنا جميعًا فى مرحلة لاحقة. البهلوان سيظل يداعبنا بكذبه، وسيظل يتسلق فوق أكتافنا محققًا أعلى نسب مشاهدة تشرع لمصداقية لا تتكئ على حقائق، فالقطيع دومًا ما يحب السير مع القطعان الأخرى، يفضل الكثيرون الاتباع بدلًا من التفكير، يحبون ما يتجرعونه من أكاذيب، فالتجرع أسهل حتمًا من إعمال العقل أو التفكير.
صار الجاسوس سيدًا على عقولنا، وقادته سيصيرون أسيادًا علينا وعلى أراضينا ومقدراتنا إن ظللنا نتابع ذلك السيرك المنصوب، وإن صارت الفرجة عليه من الخارج أقرب وأشبه بحالة الإدمان التى لا نريد أن نبرأ منها، إدمان التواجد داخل السيرك وإدمان الفرجة على البهلوانات أمر محير ومخزٍ يحسبه المتفرج شيئًا عظيمًا، فتتضاءل أمام ذلك المشهد الزاعق أمور كثيرة بل يتضاءل مع الوقت ذلك المتفرج الذى صار بدوره عبدًا لدى من كان هو عبدًا عند أجداده فى زمن لم يكن للبهلوانات مكان أو كان الشخص الكاذب يوضع فى سجن لا على منصة حضور ومشاهدة وجمهور من المغيبين. زمن الحشاشين والبهلوانات يعود من جديد والبهلوان لديه دومًا عناصر جذب وتشويق يرتدى عمامة الفقيه الشيخ ويعظ.
يمسك المسبحة فى يديه وهو بزيه العسكرى الذى لا يخلعه ولن يخلعه، لأنه يحاربنا دائمًا وأبدًا وتظل أنت مصرًا على اعتباره مجرد زى للبهلوان اللطيف الذى يوصل الآخرين لحالة الثمالة، ولكن تلك الثمالة قد تضيع لك كل شىء وكل ما تبقى لك بعد أن ضاع بالفعل الكثير.. وفقدت الكثير فلا تفقد الآن كل شىء لا تستهين بخبث الجواسيس ورسائلهم المستترة، فبين كل ما يقال هنالك الكثير مما لم يقل، وعندما يتحدث البهلوان فاعلم أنه يلهيك عن أفعاله.. هو يحدثك ليلًا ويقتل أخاك نهارًا.
وتلك هى الملهاة والتى هى فى حقيقة الأمر مأساة يغفلها كثيرون، حتى غفروا له ولجيشه ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر، وليس هنالك ما هو أبغض بل أحقر من القتل والقتلة.. القتلة لن يكونوا أصدقاء لك ولن يفلح سلام حقيقى بينك وبينهم، تظن أنه قد تحقق وأنه أبدى وأن قواعد اللعبة ثابتة لا تتغير.
قانون الصيرورة يحدثك عن سنن التطور، فإن ظننت أن السلام الأبدى قد حل تقرع لك الطبول معلنة شن الحرب عندما يحدثك أفيخاى بزى عسكرى ومعه مسبحة، فاعلم أن أخاك فى الإنسانية يُقتل فى نفس اللحظة التى تشاهد أنت فيها بهلوان الحروب والقتل. فتلك هى المعركة الدائرة حاليًا، معركة خداع واحتيال فى الافتراض وحرب دائرة حقيقية يتجرعها العزل من أهل فلسطين، وتكون النتيجة أنك لا تحرك ساكنًا لسقوط شهداء أبرياء بدعوى أن حماس هى التى بدأت تطلق صواريخها بأمر إسرائيل، فترد إسرائيل الصاع صاعين، والنتيجة مأساة على أرض فلسطين وملهاة على أرضك.
وعندما لا تعبأ أنت لقتل أخيك اليوم، لن يعبأ لشأنك أحد. لم يمر دهر على معركتك مع العدو الصهيونى. لقد هزمت العدو عندما كنت تحطاط لنفسك وكانت عداوتك له صريحة لا تقبل اللغو أو الجدال، أما اليوم وعندما أصبح التخاذل وأصبحت الخيانة شيئًا نسبيًا يخضع لوجهات النظر.. أطل عليك العدو بسلاح جديد وحرب كلامية تلعب فيها الأيديولوجية فى عصر سقوط الأيديولوجيات وإفسادها الدور الأعظم، فتظهر أصوات تتيه بالعدو، وتقف للضعيف بالمرصاد، أيديولوجية عشق الصهاينة واختلاق الذرائع لتبريرها وتمريرها صار أمرًا مثيرًا للشفقة والغثيان فى آن واحد. ففخ كبير وشراك أكبر ينتظرك ستنزلق إليه لا محالة إن فقدت القدرة على التمييز. التضحية بالضحايا اليوم تعنى وبمنتهى البراجماتية فناءك غدًا فى نفس اللحظة التى سيتيقن فيها العدو من استسلامك الأبدى له، ووقوعك فى شرك غرامه والتيه به بعد أن كان هو التائه فى أرضك.. ترشده أنت اليوم إلى السبيل.. وتريه طريقًا سيسلكه حتمًا ليصل إليك أنت ويبيدك ويفنيك.