«دعونا ننطلق».. صيحة المستقبل الأجمل
فى العاشر من أبريل الحالى، خطا العلم خطوة هائلة غير مسبوقة، حينما تمكن العلماء من تصوير ظلّ ثقب أسود بحجم وكثافة وقدرة على الجاذبية تساوى ستة مليارات ونصف المليار من حجم الشمس التى تشكل مركز الجاذبية الذى ندور فى فلكه. وسوف تقود تلك الخطوة الجبارة إلى تغييرات كبرى فى مفهوم الزمن، وفى قدرة البشرية على اكتشاف الفضاء، وبلوغ مجرات أخرى بعيدة لا نتخيلها، والتواصل مع حضارات وكائنات أخرى ربما تكون قائمة فى نقطة ما فى الفضاء الشاسع.
هكذا تتجدد صيحة سابقة ارتفعت فى أبريل أيضًا، لكن فى الثانى عشر منه، عام ١٩٦١. فوضعت الأساس للتطور العلمى الفذ الذى نسمع به الآن. كان ذلك فى صباح يوم الأربعاء حين هتف شاب روسى فى السابعة والعشرين من عمره قائلًا لمن حوله: «دعونا ننطلق»، وربما لم تسمع البشرية من قبل صيحة مستقبل أجمل من تلك «دعونا ننطلق». تلك كانت عبارة يورى جاجارين، أول رائد فضاء يكسر حاجز الجاذبية الأرضية، ويحلق بمركبة فضائية، وقد احتشدت فيه ومعه كل أحلام الإنسانية المتحفزة للتحليق واكتشاف الكون. «فلننطلق»، وبعدها ارتفعت المركبة «فوستوك-١» فى دورة حول الأرض فيما يشبه المعجزة التى أصابت العالم حينذاك بالذهول. ولم يكن «السُوفييت» على يقين من عودة المركبة ويورى جاجارين سالمين. فلم يعلنوا عن الرحلة إلا بعد نجاحها. فى ذلك الوقت كنت فى الثالثة عشرة من عمرى، لكنى ما زلت أذكر حالة الذهول التى حطت على شوارع القاهرة والناس، ما بين مصدق ومكذب. الرحلة التى استمرت حول الأرض لمدة مائة وثمانى دقائق كانت شيئًا يصعب تصديقه ولا يدخل العقل! حينذاك قال الرئيس الفرنسى شارل ديجول: «إن نجاح العلماء السوفييت فى تلك الخطوة شرف لأوروبا وللبشرية كلها»، وهتف هارولد ماكميليان، رئيس وزراء بريطانيا، بذهول: «إنه حدث تاريخى.. حدث تاريخى»، وأعلن الرئيس الأمريكى كينيدى فى ١٣ أبريل أن ما جرى هو «أكثر الإنجازات العلمية إبهارًا»، وكانت تلك الخطوة مقدمة لما حدث اليوم من غزو آخر للفضاء بتصوير الثقب الأسود، وعلى حد قول عالم الصواريخ الشهير، سيرجى كرولوف، فإن: «يورى جاجارين قد فتح الطريق أمام سكان الأرض إلى العالم المجهول، والأهم أنه منح البشرية الثقة فى قدراتها وطاقاتها». وقال رائد الفضاء الأمريكى، أرمسترونج: «إن جاجارين دعانا جميعًا إلى الفضاء لاستجلاء كل مجهول، وكشف كل لغز، والثقة فى أنه ما من مستحيل أمام إرادة وعبقرية العقل البشرى». وفى كل خطوة جديدة نحو الفضاء ينبغى أن نرى يورى جاجارين، الذى نشأ فى أسرة متواضعة وكان والده نجارًا بسيطًا، وقد عشق جاجارين الطيران منذ طفولته حتى إنه كان يحتفظ تحت وسادته وهو صبى برواية «جول فيرن» الشهيرة من الأرض إلى القمر. فى شبابه صار عاملًا بسيطًا بمصنع للحديد والصلب، وهناك انتسب إلى نادٍ للطيران يتعلم فيه الحروف الأولى لصيحته الجميلة «دعونا ننطلق»، ثم دخل كلية الطيران عام ١٩٥٥، وحين أخذ العلماء السوفييت يبحثون عام ١٩٦٠ عن شاب صالح لمغامرة كونية انتهى بهم البحث إلى عشرين شابًا كان جاجارين واحدًا منهم، وعند تصفية المرشحين تبقى اسمان فقط فى اللائحة: جاجارين، وتيتوف، وحسمت ابتسامة جاجارين الدافئة موقف اللجنة لصالحه، فقام برحلته المعجزة وصاح صيحته الجميلة التى دخلت التاريخ «دعونا ننطلق». عندما عاد جاجارين بمركبته الفضائية سالمًا، قام بجولة خارج الاتحاد السوفيتى زار خلالها ثلاثين دولة عام ١٩٦٢، وكانت مصر الدولة العربية الوحيدة التى زارها، والتقى خلال الزيارة جمال عبدالناصر، ووضع على صدر ابنه عبدالحكيم شارة رواد الفضاء، وتوقف الشاب الذى أذهل العالم مندهشًا فى منطقة الأهرامات يتطلع إليها بإعجاب، ويلتقط الصور بجوارها. فى مارس ١٩٦٨ توفى جاجارين عن أربعة وثلاثين عامًا فقط بينما كان يجرب طائرة «ميج-١٥» تحطمت به. رحل جاجارين، لكن بقيت عبارته الجميلة «دعونا ننطلق»، وأمست صيحة للبشرية كلها، وعلامة على الأمل الذى يتجدد مع كل اكتشاف علمى جديد لأبعاد الفضاء، والذى سطع بقوة مع تصوير الثقب الأسود. «دعونا ننطلق» بأمل وبقوة وثقة فى المستقبل وفى العقل وفى العلم، وفى قدرة الإنسان على تجاوز كل الصعاب.. فلننطلق.