الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالفرح
هناك أمم تسابق الزمن فى العلم والاجتهاد حتى وصلت علومها لغزو الفضاء ونزلت على أرض القمر عام ١٩٦٩ فى الوقت الذى تعيش فيه أمم أخرى على مفهوم أن القمر مجرد مصباح
ما أروع هذا التعبير الواقعى، فقد يخرج الزارع فى ظروف مناخية قاسية ليبدر التقاوى فى حقله ويداوم على رعايتها فى مناخ متقلب، غير عابئ أن تعوقه رياح عاصفة ولا شمس حارقة، يعرف متى تروى التقاوى وكيف ينزع الأعشاب التى لم يزرعها، التى إن تركت تخنق النبات فى بدايته، بالتالى تضيع الثمار.
دعونا نعترف بأن عملية نمو النبات لا تعرف الأعذار، ومن ثم تستمر دورة الإنبات من حبة تكاد ألا تراها العين إلى أن تكبر وتمتد فى شكل الأصل الذى جاءت منه كسنبلة قمح أو كشجرة مثمرة، سواء فى عدة شهور كالقمح والذرة، أو فى سنوات كأشجار العنب والتفاح، بل إن هناك أنواعًا من الأشجار تحتاج إلى سنوات طويلة حتى قيل إن من يزرعها لا يأكل منها.. ومع ذلك تُزرع لأن زارعها يؤمن أنها ستطرح ثمارها للأبناء والأحفاد ولسان حال زارعها يقول «آباؤنا زرعوا ونحن حصدنا الثمار وهكذا نزرع نحن لأجيالنا القادمة» حتى أطلق على ثمرة من الثمار اسم (الدوم) لأنها أشجار معمرة يطول زمن نموها وتستمر فى الإثمار لسنين ممتدة.
وهكذا الحال فى مجالات الحياة، فالطالب المجتهد يسهر الليالى ليستذكر دروسه ويحتمل البرد والحر وقليل من ساعات النوم، وعند إعلان النتائج يحل الفرح بديلًا للقلق والخوف والترقب، وبقدر التعب والسهر والمعاناة تكون الفرحة والابتهاج.
وقياسًا على الزرع والإنبات هكذا الحال فى سائر مناحى الحياة. أما من يعرج بين الأمرين فلا نبات يَزرع ولا معلومات يَجمع ظنًا أنه مؤمن يصلى، وللنصوص الدينية يحفظ، وهو مشهود له بالصلاح والتقوى فلم يَجر على أحد ولم يعتدى على جار أو غريب، ومشهود له أنه يمشى بجوار الحائط كما نقول فى الأمثال، سمعته جيدة، لم يظلم ولم يسرق ولم يعتدى، وكلها سمات طيبة وتربية مشهود لها، لكن على الجانب الآخر فهو فاشل فى التعليم وكسول فى الزرع، وإن زرع زرعًا يأكله الطير والآفات، أو تخنقه الأشواك أو يجف ويسقط قبل الإنبات أو بعده بقليل، حتى يتبدل الحال، فمن تعبوا واجتهدوا نجحوا، والزارعون بالتعب والألم يحصدون بالبهجة والفرح.
وكما أن مبدأ الزرع والحصاد قاعدة طبيعية عرفتها البشرية عبر كل العصور منذ وجد الإنسان الأول، كانت القاعدة «من يزرع بالشح- أى البخل- فقليل يحصد، ومن يزرع بالسخاء يحصد بالابتهاج وكثرت محاصيله».
أما من يحاول أن يجمع بين الأمرين أو يعرج بين المتضادين، أو كان مبدأه أنصاف الحلول، فلا يتوقع نجاحًا يذكر أو محصولًا يجمع، وتنطبق عليه القاعدة «الكسلان يأكل لحمه وهو طاو يديه».
وقياسًا على هذه القواعد الربانية التى خلق عليها الإنسان تسير سفينة الحياة مع اختلاف نوعية الحياة ودرجة الاجتهاد والتقدم، فهناك أمم تسابق الزمن فى العلم والاجتهاد حتى وصلت علومها إلى غزو الفضاء ونزلت على أرض القمر عام ١٩٦٩، فى الوقت الذى تعيش فيه أمم أخرى على مفهوم أن القمر مجرد مصباح يعادل مصباح الشمس، مع الفارق أن أحدهما يشرق فى الصباح والآخر يضىء بالليل.
ومن الأمثلة أنه فى عام ١٩٢٦ صرح الدكتور بتلر تون بأن فكرة الصعود إلى القمر هو مفهوم غبى ومستحيل، وفى عام ١٩٣٥ كتب الفلكى مولتان أن الإنسان لا يمكنه السفر إلى الفضاء الخارجى.
وفى عام ١٩٥٧ صرح الدكتور ريتشارد فان دير راى، الفلكى البريطانى، بأن فكرة السفر إلى الفضاء إنما هى خزعبلات وهراء. وبعد ثمانية أشهر من هذا التصريح كان القمر الروسى «سبوتنك» يدور حول الأرض.
أما أول من نجح فى الهبوط على سطح القمر هو رائد الفضاء الأمريكى، نيل أرمسترونج، ومعه اثنان من مساعديه هما إدوين ألدرين ومايكل كولين على أبولو ١٢ التى انطلقت فى السادس عشر من يوليو عام ١٩٦٩، وبعد رحلة استغرقت أربعة أيام، وفى الساعة الرابعة وسبع عشرة دقيقة بتوقيت شرقى الولايات المتحدة، تمكنوا من إنزال وحدة إيفل القمرية يدويًا بواسطة أرمسترونج على أسفل سهل بالقرب من بحر السكون على القمر. وفى الساعة العاشرة وست وخمسين دقيقة من يوم عشرين يوليو تمكن أرمسترونج من المشى على سطح القمر برفقة صديقيه لمدة ساعتين، وجمعوا عينات سطحية، كما أنهم التقطوا العديد من الصور من أماكن مختلفة قبل أن يبدأوا رحلة العودة إلى كوكب الأرض.
كما كان لكاتب هذا المقال فرصة المتابعة لتواجده فى نيويورك فى ذلك التاريخ.. وهذا يجعلنى أوضح أن النجاح والتقدم دائمًا وأبدًا يكونان من نصيب المُقدم على الإنجاز غير عابئ بالصعوبات أو العقبات، ولا يضن بجهد أو تعب، غير مبالٍ بالأصوات المنادية بالإحباط والتشاؤم أو اليأس من أى خطوة يخطوها إلى الأمام، أو وثبة يثبها إلى آفاق بلا حدود، فمثل هؤلاء هم من يجنون الفرح حقًا.