محمد رمضان.. الفن والأخلاق
أثار الممثل محمد رمضان ضجة واستياء بحفلة غنائية قدّمها فى مركز المنارة بالتجمع الخامس، يوم الجمعة ٢٩ مارس، حين خرج على الجمهور بصدره عاريًا، وبنظارة شمسية، وعلى كتفيه معطف أبيض يقلد به هيئة مايكل جاكسون، وصولًا إلى صعود المنصة بسيارتين وموتوسيكل! بطبيعة الحال يعجز رمضان عن إدراك أن شهرة جاكسون كانت فى الأساس بفضل الطابع الفنى لموسيقاه، وليس بسبب الشخاليل التى كان يعلقها على صدره.. وبداية، أقول إننى لا أعتبر محمد رمضان فنانًا ولا ممثلًا، لكنه عندى مجرد أعراض نقص مناعة ثقافية واجتماعية، مثله مثل حمو بيكا ومجدى شطة، وما شابه.
مع ذلك، فإننى أتوقف بانتباه لبيان نقابة المهن الموسيقية، ورئيسها المطرب هانى شاكر، بشأن الحفلة المذكورة، فقد جاء فى البيان، الصادر مساء الثلاثاء ٢ أبريل، أن النقابة قررت: «عدم منح أى تصاريح لأى حفل غنائى إلا من خلال لجنة فنية لتقييم المستوى الفنى»، وأنها ستأخذ بعين الاعتبار: «مدى الالتزام بالقيم الأخلاقية والمجتمعية المتعارف عليها، وعدم مخالفتها النظام العام، وأنها سوف تلاحق من يخالف ذلك قانونيًا». جدير بالذكر أن محمد رمضان ليس عضوًا بالنقابة التى تعتزم ملاحقته، المهم هنا، طالما أن النقابة قررت محاسبة الفنانين على التزامهم بالقيم الأخلاقية، هو السؤال التالى:
ما العلاقة بين الفن والأخلاق؟ وهل يجوز محاسبة الفن بمعيار أخلاقى؟.. هنا لا بد من القول إن الفن فى جوهره ينطوى على رسالة أخلاقية من حيث إنه رسالة تعارف روحى، توحد البشر، بالحزن أو الفرح أو حتى الاستياء من ظاهرة أو أخرى.. وكل فن عظيم هو بشكل ما فن أخلاقى، لأنه تواصل يسعى للجمال وللحقيقة فى مستقبل يجمع البشر ويوحدهم.. إلا أن الفن ليس أخلاقيًا بالمعنى المطروح فى زمن ما، أو فى مجتمع معين، لأن القيم الأخلاقية متغيرة ومتنوعة ومختلفة، وبعضها يندثر وبعضها يستمر، ولهذا لا يجوز لنقابة مهنية أن تحاسب شخصًا بمنظور أخلاقى حتى لو كان مدعيًا.
الفن أخلاقى بمفهوم أبعد من أخلاقيات مجتمع محدد فى لحظة تاريخية معينة، فى زمن ما.. فما الذى تقصده النقابة حين تقول إنها ستنظر فى «الالتزام بالقيم الأخلاقية المتعارف عليها»؟، ما الذى تعنيه هذه العبارة المطاطة التى تتسع لكل شىء وأى شىء؟، أى «قيم أخلاقية» سوف تستند إليها النقابة؟.. فى وقت ما كان تعليم البنات فى مصر يعد عملًا «لا أخلاقيًا» كما يشير قاسم أمين، وكانت تلك النظرة المختلة «قيمة أخلاقية» فى زمنها!، أكان من الصحيح حينذاك ربط الفن بتلك «القيم الأخلاقية»؟! خذ مثالًا آخر: فى عام ١٩٣٠، تم افتتاح أول معهد للتمثيل فى مصر، وفى عام ١٩٣١ تم إغلاق المعهد بقرار من حلمى عيسى، وزير المعارف حينذاك، وكان الإغلاق بدعوى مخالفة المعهد «التقاليد والآداب»!
هذا مع أن اللجنة التى كانت تقبل طلبات الالتحاق بالمعهد ضمت فى عضويتها طه حسين! ولو ربط المجتمع حينذاك بين الفن و«القيم الأخلاقية» بمفاهيم ذلك الزمن لاستمر المعهد مغلقًا إلى الأبد.. إن الحديث عن القيم الأخلاقية فى الفن يثير الحذر، خاصة حينما يصدر عن جهات رسمية، لأن أحدًا لا يدرى ما الذى يقصدونه تحديدًا بالقيم الأخلاقية، فقد تمسى أى كلمة عابرة مخالفة فى عُرف تلك الجهات للتقاليد والآداب، خاصة أن القيم الأخلاقية متغيرة، ومتنوعة، ومن ثم لا يجوز ربط الفن بالأخلاق بالمعنى المحدد.. وبهذا الصدد يشير الكاتب سمير المنزلاوى إلى حادثة ذات معنى عميق وردت فى كتاب الذهبى «سير أعلام النبلاء»، وبطلها أبومحذورة بن لوزان بن سعد، ففى غمرة انشغال النبى «ص» بتنظيم الجيش عقب العودة من غزوة حنين، رفع بلال الأذان، وفجأة ارتفع من بعيد صوت أبى محذورة يقلد الأذان بسخرية، وكاد البعض أن يقفز ليفتك بذلك الماجن، لكن الرسول «ص» أوقفهم وعلى شفتيه ابتسامة إعجاب بحلاوة وطلاوة صوت أبى محذورة! لقد استرعت انتباه الرسول «ص» موهبة الفتى الذى كان يتهكم على المسلمين، ولم يتوقف عند السخرية كعمل لا أخلاقى، وقدر أن من حق الفتى أبى محذورة أن يظهر موهبته وأن يثاب عليها، فاستدعاه وعلمه الأذان، وقال له: «بارك الله فيك، وبارك الله عليك»، فقال أبومحذورة: يا رسول الله مرنى بالتأذين بمكة، قال: «قد أمرتك به»! لم يحاسب الرسول «ص» الموهبة على رداءة الأخلاق! وكان بوسعه أن يفعل! وقد يكون محمد رمضان عديم الموهبة أصلًا، لكن الحكم على ذلك سيكون أشد وأوقع كلما زدنا من مناعة المجتمع الثقافية وارتقينا بذوق الجمهور وعقله وطموحه.