مهرجان شرم الشيخ.. النبل فى مواجهة الكراهية
رغم كل الجدل واللغط واللغو الذى أثير عن دورة مهرجان شرم الشيخ الثالثة لهذا العام، والحديث عن تعثر هذه الدورة بالتحديد من قبل غالبية من أقاموا فى منتجع المهرجان البعيد.. وهذا هو السر الحقيقى الذى يكشف ويفسر ذلك العداء ومحاولات الكيد والنيل المجانية.. ويفسر السبب وراء كل الانتقادات ومحاولات التشويه المتعمدة والتى صارت شبه ممنهجة، وكأن كل ما سبق هذه الدورة من دورات كانت كلها عظيمة وبلا هفوة.
فى حقيقة الأمر المتابع الجيد لجميع دورات هذا المهرجان، وأدعى أننى واحدة منهم، سيقر، لو لديه شىء من الإنصاف، بأن مهرجان شرم الشيخ قد فقد الكثير منذ فترة ليست بقصيرة.. ولم تكن دورة هذا العام بالتحديد الأزمة أو المشكلة.. بل كانت دورة يمكن اعتبارها على أى حال أسعد حالًا وبكثير مما سبقتها من دورات وهذا لا يعنى أنها كانت بلا أخطاء أو هنّات. فأزمة مهرجان شرم الشيخ فى العموم سببها من وجهة نظرى انسحاب غالبية مؤسسى «مؤسسة نون للثقافة والفنون» التى تشرف على إقامة هذا المهرجان سنويًا ومنذ تأسيسها على يد مثقفين أمناء يندر الزمان أن يجود بمثلهم.. وكغالبية الكيانات فى بلادنا بدأ ذلك العقد الجميل- الذى نسجته أسماء راقية تعرف وتقدر قيمة الفن والثقافة والسينما والإبداع- فى التفكك.. مات الدكتور محمد كامل القليوبى، وانسحبت دينامو المؤسسة وعقله الراقى المدبر السيدة المثقفة ماجدة واصف، التى عانت فيما بعد ويلات التكلس والبيروقراطية عندما تصدت لمهمة رئاسة مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، فعافت وعزفت عن استكمال ما بدأت، وفقدت المؤسسة امرأة مترفعة راقية لم ترد يومًا شيئًا لنفسها ولم تصارع يومًا من أجل منصب هنا أو هناك ولم تتربح، ثم مرض الأستاذ يوسف شريف رزق الله وهو آخر الفرسان النبلاء الذين ما زالوا يعيشون بيننا، ولكن ظرفه الصحى يعيقه بلا شك.. فيسند الرجل النبيل مهام كثيرة لمتربحين وسفهاء لمجرد أنهم شباب وجيل جديد لديه، وللأسف منظومة منحطة من القيم تخالف تمامًا قيم جيل يوسف شريف رزق بأكمله، ثم جاء انسحاب صانع الأفلام داوود عبدالسيد عن تلك المؤسسة أيضًا ليكون سببًا فى آخر قشّة قصمت ظهر البعير، فحدث نوع من الاختلال فى كل شىء، وفقد المهرجان توازنه بفقد كل هؤلاء، ولم يعد يتبقى له سوى شىء من الروح التى تلوح أحيانًا وبعض النوايا الطيبة التى تفلح أحيانًا، وتخفق فى الكثير من الأحيان، وبالتالى أصاب المهرجان ما أصاب المؤسسة من اختلال فى التوازن، وأضر ذلك بالمهرجان ضررًا بالغًا بدأ يظهر، ولاحظه بل لمسه المتابعون للمهرجان منذ بداياته وبالتالى لهؤلاء المقدرة على إجراء مقارنة بسيطة بين ما كان وما هو كائن الآن.
ثم جاء نقل فعاليات الحدث من مدينة الأقصر لمدينة شرم الشيخ، وكأنه انتقال يوحى وينبئ بأن هناك شيئًا ما قد كسر وتغير.. وأن ما هو آتٍ لن يكون مثلما كان فى السابق. فعندما كانت فعاليات ذلك المهرجان تقام فى مدينة الأقصر، وكان المهرجان معنيًا بالسينما المصرية والأوروبية، حقق المهرجان آنذاك طفرات وتلاقيًا حقيقيًا ما بين جيل من السينمائيين المصريين الشباب وجيل الوسط، واشتباكهم مع قرنائهم القادمين من أوروبا لعرض إبداعاتهم، فكانت المحصلة زخمًا حقيقيًا وتراكمًا فنيًا وإبداعيًا كان مردوده شديد الثراء والصدق، ناهيك عن الورش التى كانت تنتج وتفرز إبداعات وسيناريوهات تستحق التوقف عندها، وتتيح إمكانيات للإنتاج المشترك بين المبدعين المصريين والأجانب بمساعدة من الاتحاد الأوروبى وغيره من الكيانات التى يمكنها توفير فرص جادة لصناعة السينما ولصُنّاعها.
ابتعاد ماجدة واصف، وهى كلمة السر فى نجاح ذلك المهرجان، أربك الباقين وهو أمر طبيعى وكان متوقعًا. فبدأ المهرجان يبحث لنفسه عن هوية جديدة، فأضاف بعدًا جديدًا له علاقة بالسينما العربية، والتى تستحق بطبيعة الحال، ولكن اتساع رقعة المهرجانات العربية بل ووجود مهرجانات للسينما العربية فى الخارج وفى المهجر وتهافت المهرجانات المصرية على استقدام وعرض تلك الأفلام العربية، ودعوة صُنّاعها ومنتجيها ومديرى مهرجاناتها لمآرب أخرى ليست كلها لصالح الفن والإبداع بل غالبيتها محاولات للتربح والحصول على أكبر قدر من الغنائم خاصة أن الكثير من النقاد الشباب والمعنيين بالشأن السينمائى من الجيل الحالى، صارت لديهم وظائف وعلاقات بشركات الإنتاج والتوزيع والمهرجانات العربية تحديدًا، وبالتالى صار لهؤلاء مصالح مباشرة وواضحة شديدة الفجاجة أحيانًا مع الكثير من هذه الشركات سواء فى الداخل أو الخارج، وصار هناك نوع من الاستقطاب والاحتكار والمحاباة لأسماء بعينها وأفلام بعينها أنتجتها أو توزعها وتحتكرها تلك الشركات على حساب الجودة بل وعلى حساب المضمون، وبعيدًا كل البعد عن عنصر الإبداع والاحتكام إليه.
كل تلك العوامل مجتمعة هى السر واللغز الذى يفسر لنا تخبط مهرجان شرم الشيخ وبحثه الدائم فى كل دورة عن هوية وتيمة جديدة.. فيخفق أحيانًا ويصيب أحيانًا وتبقى الرغبة فى الاستمرار وتحقيق الديمومة هى الحقيقة الواحدة الراسخة التى يمكن التعاطف معها واحترامها وتشجيعها ومساندتها لا العكس. فقد عمد البعض بعد انتهاء هذه الدورة بل وحتى قبل انتهائها، على تحطيمها وتحطيم التجربة وتصيد الخطأ فيها ولها أحيانًا بمنطق وعلى حق، وأحيانا أخرى كثيرة بلا منطق مقبول.. فاللاموضوعية أصبحت سمة غالبة تصبغ حيواتنا بالكثير من الغبن والكره المجانى.
فغالبية من هاجم المهرجان هذا العام، لم يكن يفعل ذلك بشكل موضوعى منزه من أجل السينما والفن والإبداع.. وهم نفس الأشخاص الذين غضّوا الطرف فى السابق عن أى هنّات أو أخطاء ارتكبت فى الدورات السابقة، وكأن الجحيم كله قد تمثل فى دورة هذا العام، وكأن النعيم كله كان فيما سبق للمهرجان من دورات!
وختامًا أقول، إن المتصيدين فى الماء العكر هم من جلسوا فى فنادقهم القريبة أو البعيدة، وكأنهم فى إجازة يستمتعون بها ويعاقبون فيها من دفع فاتورة إقامتهم التى لم تعجبهم وآثروا الاستمرار والبقاء فى تلك الفنادق، ولم يرحلوا أو يعودوا لبيوتهم إلا بعد انقضاء عطلتهم المدفوعة لهم بالكامل من قبل المهرجان ومؤسسته، ليحمل كل واحد من هؤلاء معوله للهدم ويصوب سهامه السامة تجاه الحدث، وكأن السينما والفن صارت عدوه اللدود.