جذور للكتابة الحديثة
فى رواية مائة عام من العزلة لجابريل ماركيز، تصعد إحدى الشخصيات إلى السماء بينما كانت تنشر الملابس. وفى رواية ميلان كونديرا «الضحك والنسيان»، سنرى حلقة من الراقصين ترتفع فوق الأرض، وتشرع فى الطيران فى الفضاء. وبطلة رواية «ليالٍ فى السيرك» للكاتبة أنجيلا كارتر لاعبة فى السيرك لها ريش جميل ليس فقط لتقديم نمرتها، بل ولمساعدتها على التحليق فى الجو.
لقد نشرت الواقعية السحرية التى غزت الكتابة الجديدة، نوعًا من القص يشتمل على أحداث غريبة ومتخيلة، فى سياق البحث عن مسارات جديدة للسرد الروائى، تسمح بإعادة اكتشاف الواقع على ضوء المواجهة بين القصص الغريبة والواقع المألوف.
ارتبط هذا الاتجاه أساسًا بأعمال كُتاب أمريكا اللاتينية، ثم تلقفها الكُتاب فى البلدان الأخرى بكفاءة أقل. لكن هناك رواية ضرب الصمت حولها فى حينه لأسباب سياسية- وهى إحدى روائع الأدب فى القرن العشرين- هى رواية الكاتب الروسى العبقرى ميخائيل بلجاكوف «المعلم ومرجريتا» التى سبقت كل ذلك حين كتبها بلجاكوف عام ١٩٣٠.
والحق أن السعى لنفض الغبار عن الواقع بتعريضه لضوء أحداث غريبة ومستحيلة مسعى قديم مرتبط بتاريخ الأدب ونشأته، منذ ظهور الإلياذة والأوديسة لهوميروس فى القرن الثامن قبل الميلاد، ثم رواية «تحولات الحمار الذهبى» لصاحبها لوكيوس أبوليوس التى كتبت منذ نحو ألفى عام، ثم ألف ليلة وليلة التى تعرفت عليها أوروبا فى مطلع القرن ١٨، والتى يقوم القص فيها على المزج بين ما هو واقعى وتخيلى، وقد اعتبرها ماركيز «من أهم الأعمال التى تركت أثرًا فى مسيرته». وفى قصة لرائد القصة القصيرة موباسان «من يدرى» نشرت عام ١٨٩٠، فيها يعود شخص إلى بيته ليبصر عند عتبة باب منزله: «مقعدًا، مقعدى الوثير يخرج من منزلى متبخترًا باتجاه الحديقة، ثم لحقت به مقاعد حجرة استقبال الضيوف، ووراءها جاءت كل كراسى المنزل.. ثم مر أمامى ذلك البيانو الخاص بى، ثم مكتبى، فاندفعت نحو مكتبى وانقضضت عليه، لكنه كان منطلقًا بسرعة لا ترد».
إن هذا المشهد الذى يصور فيه موباسان طيران قطع الأثاث فى الهواء، والبيانو الضخم، يعود ليظهر لنا مرة أخرى عند محمد توفيق فى روايته «طفل شقى اسمه عنتر»، حين تطير قطع الأثاث من الشقة وتسقط فى الشارع. وعامة كان الكثير من قصص موباسان حافلًا بوقوع أحداث مستحيلة الوقوع فى مجرى عمل تميل أحداثه الأخرى فى مجملها إلى الواقعية بمعناها المعروف. هناك اتجاه آخر يلازم الكتابة الحديثة، أقصد الاتجاه لتحطيم الحاجز بين الوهم والواقع كما نرى عند الكثيرين، وحتى ذلك الاتجاه يمكننا أن نرى جذوره عند رائد القصة الثانى أنطون تشيخوف.
فى قصة «مزحة» التى كتبها تشيخوف عام ١٨٨٦، سنجد شابًا يتزحلق على الجليد فى زحافة مع صديقته، وحين تطير الزحافة كالرصاصة فى الهواء ويصفر الهواء فى آذان الشاب وصديقته، فإن الشاب يهمس لها فى الريح بصوت خافت: «أحبك يا ناديا». وحين يصل الاثنان إلى أسفل التل، تتخلص «ناديا» من خوفها وتعود إلى حالتها الطبيعية وترمق الشاب بنظرة متسائلة: «هل هو الذى قال لها تلك الكلمات الثلاث؟».
ثم تطلب من صديقها أن يعاودا التزحلق، وما إن تصفر الريح حتى يكرر الكلمات الثلاث بصوت خافت، ويظل اللغز محكمًا، وتسأل «ناديا» نفسها: «هل الريح هى التى اعترفت لها بالحب؟». ولا يسع «ناديا» أن تعرف إلى نهاية عمرها هل كان ذلك وهمًا من الريح أم حقيقة نطق بها شخص محدد؟. لا يقتصر الأمر على الوسائل الأدبية، فهناك حركة أخرى مماثلة تحدث فى مجال الأفكار والشخصيات، والموضوعات الأدبية. فقد أخذ جوجول فكرة الأرواح الميتة عن بوشكين، بينما كان بوشكين قد أخذها عن «رحلة عاطفية» لستيرن.. وعلى حد قول مكسيم جوركى: «فإنه من المهم أن نعلم أنه من قديم الأزل وفى كل مكان، نسجت وتنسج إلى الآن شبكة كبيرة تهدف إلى اقتناص الروح الإنسانية».
ولا يعنى كل ذلك أن الكتابة الحديثة لم تأتِ بجديد، فقد أعادت السطوة لوسيلة أدبية قديمة، لكن فى سياق وظرف آخر. والعودة إلى جذور تلك الكتابة تجعلنا أقدر على إدراك مدى جدة تلك الوسائل، وتمكننا من رؤية مسار الكتابة الحديثة فى تطورها من أجل مواصلة الإبداع بمزيد من الثقة.