إطار فارغ
هل تذكرون شهرزاد.. تلك الحكاءة الأولى وحكاياتها؟.. هل تذكرون حكاية شهرزاد التى جسدتها الممثلة المغربية «سناء عكرود» فى فيلم المخرج الكبير يسرى نصرالله «احكى يا شهرزاد».. تلك الممثلة الموهوبة والمختلفة.. أطلت علينا من جديد فى بدايات عام ٢٠١٩ كصانعة لفيلم سينمائى جيد ومحكم شارك فى مسابقة مهرجان أسوان لسينما المرأة فى دورته الثالثة، وهى دورة تؤكد ثبات المهرجان وصموده رغم قلة الموارد المالية.
إنه مهرجان نجح فى أن يجد لنفسه موطىء قدم على خريطة المهرجانات السينمائية المصرية التى اتسعت رقعتها جغرافيًا، ومدينة أسوان كانت تحتاج لهذا الشريان الثقافى والسينمائى الذى ضخ دماءً جديدة فى عروق الجنوب كى تزدهر ولا تنضب أو تتكلس بسبب انعدام سريان الإبداع فيه والتواصل مع الجنوب وأهله، وهو المعروف والمشتهر بثرائه وخصوصيته وتعددية مشاربه وأعراقه، والتى تضفى عليه بلا شك مذاقًا خاصًا مختلفًا يندر أن يكون له نظير فى جميع مناطق الجمهورية.
وفيلم المخرجة والممثلة المختلفة «سناء عكرود» كان فيلمًا احترفت فيه الحكى ونسج الحكايات.. فهى من قامت بدور البطولة فى الفيلم وكتبته وأخرجته بعد أن درست الفن فى بلادها.. وجاء عملها الروائى الأول وعنوانه (إطار فارغ) والذى افتتحت به الإعلامية المغربية (فاطمة النوالى) الدورة الأولى لمهرجانها السينمائى الجديد فى كازابلانكا وسيعرض فيلم (سناء عكرود) فى دور العرض السينمائية فى المملكة المغربية فى أكتوبر المقبل، أما عرضه الأول فسيكون اليوم، مع الاحتفال باليوم العالمى للمرأة.. فالفيلم يجسد ويوثق معاناة امرأة قروية تسكن فى الجبال البعيدة النائية المنسية والتى لا يتوفر فيها ما يجده إنسان المدينة.. المرأة التى لم تحصل على حقها الأصيل والطبيعى فى التعليم والرعاية الصحية وجميع حقوق المواطن البسيطة والتى صارت بالنسبة لها أمنيات، بل أحلامًا بعيدة المنال.
المرأة التى تعانى من الإقصاء والتهميش والفقر وجميع أشكال الظلم والتجاهل لأقل وأبسط حقوقها.. المرأة التى تعيش روتينًا يوميًا متكررًا لا يرحم من المعاناة والشقاء فى جمع الحطب من الغابات، حيث الثلوج والظروف المناخية الصعبة، امرأة تعيل طفلتها بعد نزوح الزوج للمدينة وغيابه مدة ٦ أشهر وهى لا تعرف عنه شيئًا ولا سبيل للوصول إليه أو التواصل معه سوى بالخطابات التى يمليها الزوج لمن يستطيع كتابتها ليقرأها لها شيخ القبيلة، وهو الفرد الوحيد فى القرية الذى يجيد القراءة والكتابة وعندما مرض الشيخ المسن وسقط فسقطت نظارته فقدت «فاطيم» وهو اسم القروية التى لا تجيد حتى قراءة اسمها أو كتابته، بل ولا تحمل أى أوراق ثبوتية تثبت بها هويتها للعالم الخارجى، إذ تعيش فى قرية وسط قبيلة منسية منعزلة عن كل مظاهر المدنية والحضارة ولا تعرف الدولة عن تلك القرية شيئًا.
وهذه المرأة بتلك المعطيات وبهذه المواصفات تقرر لها من أهل القرية النزول للمدينة من أجل ملء إطار نظارة الشيخ الفارغ بزجاج بديل عما كسر كى تستطيع فاطيم وبقية أبناء قريتها معرفة ما يجرى حولهم من خلال نظارة الشيخ والتى هى فى حقيقة الأمر منفذهم بل ونافذتهم الوحيدة التى يطلون بها ومنها على العالم الخارجى.. ودونها تصير عزلتهم أكبر وتتسع الهوة بينهم وبين العالم الخارجى، بل يفقدون التواصل تمامًا مع الغائبين من قريتهم وهم كثير بسبب السعى وراء لقمة العيش!!.
وتنزل فاطيم المدينة ولم تندهها تلك المدينة بل قست عليها ولم تكن المدينة بالنسبة لفاطيم حلمًا ولم تكن مبتغاها، كل ما كانت تريده فاطمة كان زجاجًا جديدًا لنظارة الشيخ كى تطل من خلاله على العالم وتعرف أخبار زوجها الذى غاب عنها وعن طفلتها وتركها وهى تحمل جنينًا جديدًا لم تكن حتى تعى بوجوده إلا عندما فقدته أثناء التدافع فى المدينة وعندما زج بها وسط مظاهرة تطالب بتحسين الأوضاع المعيشية.. وتم القبض على فاطيم ولأول مرة تلتقى تلك القروية بأحد أفراد الدولة بل ولأول مرة يكتشف المعنيون بشئون البلاد أن هناك مواطنين يعيشون بلا هويات ولا أوراق ثبوتية وتتحول قضية القروية فاطيم لقضية رأى عام يتخذ منها الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعى وجمعيات ومنظمات المجتمع المدنى وحقوق الإنسان وقضايا المرأة مادة غنية وتكئة بل صيدًا ثمينًا للهجوم على القائمين على الدولة ومطالبتهم بحق فاطيم التى قتلت الدولة جنينها، فصارت بالنسبة لهم قاتلة الأطفال وصارت فاطيم فى يوم وليلة ودون أن تعى هى ذلك أو تسعى لأى شىء، وسيلة ضغط على المسئولين للاستجابة لمطالب المتظاهرين الذين يحتجون ويتحججون بفاطيم وجنينها الذى فقد للتنكيل بالمسئولين والضغط عليهم لتحقيق المطالب.
ووسط كل هذا الصخب الذى لا يعنى فاطيم فى شىء ولا تفهمه أو تعيه ولم تسع بالطبع إليه تنسحب المرأة القروية فى صمت وتترك المشفى الذى كانت فيه وتنزل على قدميها دون أن تخبر أحدًا وتسير وسط الجموع المتجمعة أمام المستشفى من أجلها وبحجة جنينها الذى فقد وتمر هى بشحمها ولحمها- الذى صار منقوصًا بعد فقدها الجنين- بينهم دون أن يشعر أو يدرك بوجودها من نادوا باسمها وبحقها وبحق جنينها.. رافعين شعار (كلنا فاطيم).
هؤلاء جميعًا لم يلحظوا فاطيم وهى تسير بجانبهم وتخترق جموعهم على قدميها.. لم يلتفت أحد لها أو لمغادرتها المستشفى لأنهم مشغولون ومنشغلون بقضاياهم هم ومطالبهم التى تبدو وكأنها مطالب لفاطيم وأمثالها، فى حين أنها مطالبهم هم والكل معنى بشأنه ويعيش بمعزل عن الآخرين وإن بدا الأمر عكس ذلك.. فالمتظاهرون معنيون بمطالبهم، والمسئولون معنيون بمناصبهم وكراسيهم، وفاطيم معنية بنظارة الشيخ منقذها وملاذها الوحيد للتواصل والمعرفة.. وللمعرفة ثمن باهظ لا بد من دفعه، ولقد دفعت فاطيم بالفعل ثمنًا غاليًا من أجله، بل فقدت من لحمها ودمها جنينًا منها من أجل نظارة الشيخ.. ثم عادت لقريتها فى نهاية الفيلم بخفى حنين وبتجربة قاسية موحشة اغتربت فيها فى أجواء المدينة الصاخبة، حيث حوارات الطرشان والأصوات الزاعقة التى تنطلق فقط دون أن تسمع.. أصوات تتحدث وتطالب ولا تسمع فى حقيقة الأمر ما يريده حقًا غيره.
وكل شخص يريد شيئًا لا يحصل عليه فى النهاية بعد أن فقد الجميع التواصل وصار الكل كشعب بابل.. لا يفهمون بعضهم البعض، لأنهم فى واقع الأمر لا يسمعون لبعضهم البعض. (إطار فارغ) عمل إبداعى شديد الدلالة وضع يده على لب الأزمة والمشكلة وأدركنا من خلاله أننا صرنا جميعًا نحن شعوب هذا العالم القاسى الموحش كشعب بابل الذى كان يأمل ويطمح إلى الوصول إلى الله وإلى الحقيقة ولم يصل بل تشتت وتشرذم واغترب.