ليس كل ما نرى حقًا
مع أن فارق كلمتى الغرب والعرب فى لغتنا هو حرف هجائى واحد، أو لنقل «نقطة» فارقة بين الغرب والعرب فإن البون واسع جدًا، وهنا أستدعى مقدمة لحديث طويل أجراه فى حياته الإمام البوطى فى مقدمته أن «الغرب يستخدم العقل والعلم والاقتصاد والحضارة والفكر ولكل مجتهد نصيب، ولا فرق فى هذا بين مؤمن وغير مؤمن. فمن بذل جهدًا علميًا أو إبداعًا واختراعًا، لا بد له أن يصل إلى غايته». وقد ظهرت رجاحة عقل الشيخ البوطى واتساع فكره بوضعه بعين الاعتبار محاولة إصلاح جميع جوانب الشخصية الإنسانية من عقل ووجدان وسلوك.
إن إصلاح جانب واحد فقط مع إهمال باقى الجوانب، يحمل الإنسان على التخبط والحيرة بين الانقياد إلى العقل أو السعى وراء العاطفة التى تسيطر على جزء كبير من كيانه أم الانقياد وراء السلوك الذى يفرضه المجتمع، فتنقلب نفسه إلى حلبة للصراع ومسرح للتناقض مما فيه الضرر على المجتمع والدولة، فى الوقت الذى يسعى فيه العلماء لمساعدتها على التقدم. فالحل كما قال البوطى عن طريق ملء العقول باليقين وتغذية القلوب والعواطف بما يتوافق مع الفطرة الأخلاقية السليمة وتقويم السلوك والسيرة والنشاط ضمن حدود منضبطة. فأى تأثير سيئ فى إحدى هذه الحلقات سينعكس بالضرورة على باقى الحلقات، باعتبارها شبكة متماسكة متصلة ببعضها، ثم إن الحضارة هى ثمرة جهود بذلتها أجيال فى العلوم والمعارف والقوانين والنظم العسكرية، كما سخر الغرب الطبيعة والكون، وتوارث الأجيال ثمار الجهود بل أضافوا عليها.
وقد كتبت الدكتورة عصمت حوسو تحت عنوان «فخ العقل العربى» عن المعايير المزدوجة والتفنن فى صناعة الأقنعة والتلون حين اختيارها، والتقمص بعد ارتدائها بما يحقق الرغبات والأهواء والمصالح الفردية، وأشارت إلى شعر المتنبى الذى تميز بالهوى لغير أهله، ويستصحب من الأشخاص من لا يلائمه، ومن شعره هذه العبارات:
وما انتفاع أخى الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم
ومن صحب الدنيا طويلًا تقلبت على عينه حتى يرى صدقها كذبا
وعودة إلى ازدواجية المعايير حول العالم، لنرى فرنسا ممثلة فى حكومة ماكرون فى مواجهة الاحتجاجات التى تظاهر بها أصحاب السترات الصفراء، حتى أوقفت الحكومة وسائل المواصلات لوقف الوفود عن الوصول لمكان التجمع، كما أطلقت الأعيرة بطلقات مطاطية. هذا، كما أعلن الرئيس الفرنسى رفضه تدخل دول أخرى فى الشأن الداخلى، مع أن الذى تدخل هو عضو فى الاتحاد الأوروبى وليس بغريب عليه. ذلك فى الوقت الذى يتدخل فيه ماكرون فى شأن الآخرين ومنهم مصر. لذا لزم الرجوع إلى قانون ماغنيتسكى الذى قدم كمشروع قانون من الحزبين الديمقراطى والجمهورى فى الكونجرس الأمريكى، وصادق عليه الرئيس باراك أوباما فى عهده فى ديسمبر من عام ٢٠٠٩، ومنذ ٢٠١٦ أصبح قانونًا شبه دولى على الأقل من الجانب الولايات المتحدة الأمريكية التى تفرض عقوبات على منتهكى حقوق الإنسان فى أى دولة حول العالم، وذلك من خلال تجميد أصول أموالهم وحظرهم من دخول الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تمتد العقوبات لمجالات أخرى.
وفى عام ٢٠٠٩ توفى محاسب الضرائب الروسى سيرجى ماغنيتسكى فى سجنه بموسكو، وذلك بعد قيامه بعمل تحقيق خلص فيه إلى قيام محاسب روسى بسرقة اموال من الضرائب بمبلغ ٢٣٠ مليون دولار من خزينة الدولة، لكن الحكومة الروسية اتهمت ماغنيتسكى نفسه بالاحتيال وسرقة الأموال، مُلَفِّـــقَة التهمة له أثناء وجوده بالسجن، وكان قد أصيب بالحصاة الصفراوية والتهاب البنكرياس والمرارة، وذلك بسبب ظروفه الصعبة داخل السجن وعدم تناوله العلاج الطبى عدة شهور احتجاجًا على ما تعرض ويتعرض له داخل السجن، وبعد عام من بقائه فى السجن تعرض للضرب حتى الموت. لقد مات ماغنيتسكى، لكن ما نادى به لم يمت، بل انتشر حتى دوّل القانون وارتبط باسمه فى عام ٢٠١٦ لمعاقبة المسئولين الحكوميين الفاسدين والذين يثبت اعتداؤهم على حقوق البشر فى أى مكان فى العالم. وفى سبتمبر ٢٠١٧ اعتدّت بهذا القانون مجموعة دول بلغ عددها خمس عشرة دولة من بينها ثلاث دول عربية، كما تبنت هذا القانون دول أخرى لم تكن ضمن الخمس عشرة دولة الأوائل منها دولتان عربيتان، ثم توالى تبنى القانون من دول أخرى جديدة هى إستونيا والمملكة المتحدة وكندا وليتوانيا.
ويبقى قانون ماغنيتسكى فى رأى الكثيرين من المهتمين بشأن الإنسان وحقوقه، كما وصفه الأسترالى جيفرى روبرتسون بأنه «واحد من أهم التطورات الجديدة فى مجال حقوق الإنسان».