التعديلات الدستورية
الدول المستقرة، لا حاجة لها لتعديلات فى دساتيرها، ولكن تلك الدول فى تجاربها السياسية، خلال مسيرتها الطويلة، تكتشف أنها بحاجة إلى تعديل مسارها. فرنسا كدولة مستقرة، تعتبر قلعة القوانين والدساتير فى العالم، وهى التى أرست معظم القواعد القانونية فى معظم الدول، لكنها مرت بتجربة ثرية حتى وصلت لوضعها الآن.
على مر مئات السنين تنقلت فرنسا بين عدة تجارب سياسية مختلفة، جعلت منها أكثر الدول التى خاضت تغييرات سياسية، بعد ثورتها الشهيرة ١٧٨٩ التى ألهمت جميع الثورات التى تلتها.
حتى وصلت فرنسا إلى وضع الاستقرار، مرت بخمس فترات سياسية فاصلة فى تاريخها. خلال مسيرتها الطويلة لمدة مائتين وثلاثين عامًا. كان آخرها التعديلات الدستورية التى تمت فى جمهوريتها الخامسة، حيث عدلت دستورها فى أكتوبر ١٩٥٨. واستبدلت نظامها السياسى من حكومة برلمانية بنظام نصف رئاسى، حيث حكم خلالها كل من شارل ديجول وجورج بومبيدو ودستان وفرانسوا ميتران وجاك شيراك ونيكولا ساركوزى وفرانسوا أولاند، ثم إيمانويل ماكرون حتى الآن.
تمر فرنسا وكل أوروبا، بظروف استثنائية، أبرزها صعود اليمين المتطرف كردة فعل على الهجرة الكثيفة التى شهدتها الدول الأوروبية خلال السنوات الأربع الأخيرة، ما شكل تهديدًا لهوية أوروبا المسيحية.
مصر مرت بظروف خاصة أكثر وعورة منذ أن كتبت أول دستور لها عام ١٨٧٩ بعد مرور البلاد بعدة تجارب منها تجربة وليدة خلال الحملة الفرنسية، وفترة حكم محمد على فى النصف الأول من القرن التاسع عشر، إلى أن قام المفكر رفاعة الطهطاوى بترجمة نص الدستور الفرنسى فى كتابه «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز»، وصولًا إلى دستور ١٩٢٣ الذى يتكون من ١٧٠ مادة، فجاءت مادة الدين فى نهايته، والتى خلا منها دستور ١٩٣٠. ولكن دستورى ١٩٥٤و١٩٥٦ أعادا نص مادة الدين التى كانت فى دستور ١٩٢٣ وتقول «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية».
ثم توالت الدساتير، وجاء دستور ١٩٧١ كأول محطة دستورية، شهدت تلاعبًا دستوريًا وفق أهواء الحاكم، مما ممهد لأكبر عملية خلط السياسة بالدين.
وظل التلاعب فى الدستور حتى فبراير ٢٠٠٥ عندما أعلن عن تعديل المادة «٧٦» من الدستور، بحيث يكون انتخاب رئيس الجمهورية عن طريق الاقتراع السرى العام المباشر، من جميع أفراد الشعب الذين لهم حق الانتخاب، بدلًا من اختيار رئيس الجمهورية بطريق الاستفتاء، بعد ترشيح مجلس الشعب شخصًا واحدًا للرئاسة. وفى سبيل ذلك عدلت المادة بنص من أغرب النصوص الدستورية، وأطول مادة فى أى دستور.
ولما قامت ثورة يناير ٢٠١١، وجاءت بحكم الإخوان، تم إنشاء دستور جديد عام ٢٠١٢. أطلق الحكم للدولة الإسلامية والتيارات الدينية، وفى ٣٠ يوليو ٢٠١٣ أطيح بالرئيس الإخوانى ودستوره، وأعلنت فترة انتقالية اجتازتها مصر بنجاح. وتم إنشاء دستور آخر فى ٢٠١٤. لم يختلف كثيرًا عن سابقه، واختيرت لجنة دستورية ترأسها السياسى عمرو موسى، أمين عام الجامعة العربية الأسبق، المرشح الرئاسى فى أول انتخابات بعد ثورة يناير. وبدأ يغازل النظام الجديد، وكانت عينه على رئاسة البرلمان، فجاء الدستور أقرب إلى الدولة البرلمانية، مع نظامها السياسى نظام رئاسى.
كان عمرو موسى يعتقد أنه سيصبح رئيسًا للبرلمان، وأنه سيتم تعيينه فى البرلمان بقرار رئاسى، وبالتالى جاءت صياغة الدستور، ليطغى البرلمان، كسلطة تشريعية على السلطة التنفيذية التى رأسها رئيس الدولة، فاشترطت موافقة البرلمان على أى تشكيل وزارى، وعلى أى وزير يتم تغييره فى أى تعديل وزارى.
فطالما كان الرئيس مسئولًا عن السلطة التنفيذية، فإن سلطته فى اختيار الحكومة ووزرائها تصبح مطلقة، لأنه المسئول الوحيد عنها، وعن أدائها أمام البرلمان. طالما هناك مبدأ دستورى بضرورة الفصل بين السلطات، ولا ينبغى أن تطغى سلطة على سلطة أخرى.. وللحديث بقية.