مصر في عيون العالم
من الواضح أن المرء لا يرى نفسه إلا في الحدود الضيقة، ولا يكتشف قدراته ولا ما يملك من مواهب وموروثات بقدر ما يرى الآخرون ما فيه من مميزات وما فيه أيضا من قصور أو عيوب، حتى أن العقلاء والفهماء والحكماء يتحسسون باجتهاد ليتلمسوا ماذا يرى الآخرون فيهم من قصور أو عيوب وذلك حتى يتمنوا من تصحيحها أو تغييرها ولو بقدر المستطاع، فهناك عادات توارثناها ونعيشها دون وعي منا، أو في بعض الأحيان بوعي وإصرار ظنًا منا أن ما فينا هو أفضل مما في الآخرين.
ومن يراجع ما كتبه الشعراء القدامى، يدرك كم الفخر والانبهار بشخوصهم وكأنهم الأفضل والأذكى والأقدر عن كل من عداهم، لهذا أنظر بفخر الى تاريخ بلادنا وجذورها وثقافتها، ناظرًا ما يضاف اليها في ظل الحداثة والتجديد مع مشرق كل صباح، وآملًا سرعة الحركة الى الأمام والتقدم مقارنة بالحركة العالمية أو الكونية في شتى المجالات الإنسانية، كذلك مع تقدم الطب والهندسة وسائر العلوم - في انتظار عن كثب لحركة النهضة في بلادنا حتى يمكن الحكم على درجة وسرعة التغيير، أم أن التغيير لا يخصنا؟ وعندنا من الموروثات ما يكفينا، ومن الأطلال ما نفخر بها حتى أن العالم يشتاق أن يرى أهرامنا "قبور أسلافنا"، فرؤية الغرب للعرب هي تاريخ وأثار ونبوغ وإبتكار، وإن وقف عند هذا الحد تاركا لنا التاريخ.
وأما هم، فلهم فكشف غموض ما وصل إليه أجدادنا رضينا أو لم نرضَ حيث يروا هم أن لهم مصر هي الفرعونية القديمة التي أخذوا منها علم المصريولجيا ( علم المصريات - Egyptology ) أو دراسة تاريخ مصر، معجزة الحضارة، وكانت بداية هذه الدراسة لعالم فرنسي إسمه ماسبيرو، وآخر اسمه شامبليون، ولست أظن أننا نقلنا من علمهم أكثر من الاسمين فأطلقناهم على شارعين في وسط مدينة القاهرة (أي شارعي ماسبيرو وشمبليون). أما علم المصريولجا فهو علم يدرس للأجانب منذ دخل نابليون بونابارت غازيا لمصر، وخرج منها بعلم يدرس في الغرب وليس للعرب. ودارسو التاريخ يعرفون أن نابليون بونابارت حين دخل مصر كان قطاع من حملته علماء وفنانون هم الذين أسسوا لعلم المصريات بناء على ما نقلوه عن مصر حضارة وتاريخا، وسجل كل هذه الكنوز في موسوعة للأسف لا نملكها بعنوان " وصف مصر"، كما واكتشف الفرنسيون حجر رشيد وهو من البازلت الأسود، وكان ذلك في عام ١٧٩٩.
أما ما كتب على هذا الحجر - وهو الأهم - فهو نقش باللغة المصرية القديمة، أي الهيلوغروفية وأسفلها باللغة اليونانية، ومحتوى ما وصل إلينا هو أنه عن صدور قرار كهنوتي - أي أنه صادر من كهنة مصر القديمة - وتاريخ الكتابة يرجع إلى عام ١٩٦ قبل الميلاد في عهد بطليموس الخامس وهو في عمر الثالثة عشرة، وفكت رموز الكتابة في السابع والعشرين من سبتمبر عام ١٨٢٨ بعد الميلاد.
أما ما ترجم من الجزء الأول من حجر رشيد فهو على النحو التالي: " في عهد الصغير الذي ورث الملك عن أبيه جلالة الملك صاحب التيجان الذي أرسى مصر، التقي الإله المنتصر على أعدائه والذي أعاد الحياة الكريمة للناس، سيد أعياد الثلاثين عاما، العادل شبيه الشمس، ملك القطرين، العلوي والسفلي، العظيم إبن الآلهة، العائد إليهم، والذي أيدته الشمس بالنصر، الصورة الحية لزيوس إبن الشمس بطليموس الحي القيوم، محبوب بتاح. في السنة التاسعة أنا أنيوس إبن آيتوس كاهن الإسكندرية والآلهة سوتيرس وأدولفي والآلهة بورجاتي وفيلوباتيروس من لهم السلطة والمعرفة."
العرب وحجر رشيد: يقول العالمان العربيان المصريان الدكتور عكاشة الدالي المحاضر بجامعة لندن والباحث السوري يحيى عبير علم كيف كان للعرب الفاتحين في مصر إطلاعات على لغات الدولة القديمة بما مكنّهما من فك رموزها، وكيف أن شامبليون إستعان أثناء ترجمته لحجر رشيد بتلك المصادر العربية. ووفقا للدكتور عكاشة فإن العالم الصوفي ذو النون المصري الذي ولد ونشأ بالقرب من معبد أخميم بمدينة سوهاج في بداية القرن التاسع الميلادي، والمعروف عنه أنه كان يجيد اللغة الهيلوغروفية ووصفها بدقة سواء كانت اللغات الديموطيقية أو الهيراطيقية أو القبطية وكلها قريبة من بعضها.
أما الباحث يحيى مير علم فقد ذكر أن إبن وحشة القبطي كان أول من فك رموز اللغة المصرية القديمة وميز أنواعها.ومع كل هذه الأفكار والرؤى وكثرة الأصوات وانتساباتها يبقى السؤال: هل قدم أي منهم مخطوطة مؤيدة لأقوالهم ؟ إنه سؤال مفتوح ينتظر الجواب، ويليه سؤال: ماذا فعلنا في حداثتنا مقارنة بما قدمه الأقدمون ؟