عبدالوهاب داود يكتب: «عمدة المنايفة» وإن لم يدخلها إلا زائرًا
تربى فى حوارى المنيرة لكن أصوله ريفية.. ودرس فى كلية الزراعة جامعة القاهرة
لهجة الفلاح تنساب على لسانه طيعة وطبيعية وينطقها بغير تعب أو مشقة أو «عوجة لسان»
فى البدءِ، خلق الله المحبة، وخلق لها مخلوقاتها الحصرية، لذا لا تندهش إن صادفت من يُلقى الله محبته فى قلوب الخلق أجمعين، وإن كانت به «كُلُّ العِبَر»، ومن ينفق العمر كله بحثًا عن حبيب.
بين هذا وذاك، تجد من يُدخِل الله أسرار محبته فى نفسه، ولكنه لا يتوقف عن السعى، واكتساب المحبة، وقد كان حظ النجم صلاح السعدنى أنه من هذه الفئة الثالثة، التى تدخل القلوب بضحكتها الواسعة المرحبة، ووجهه البشوش، وروحه البسيطة التى كانت تكفى لرفع التوتر من كل بلاتوهات التصوير، التى دخلها، وكواليس المسارح التى مر بها «واتمرمط فيها»، لكنه أيضا لا يتوقف عن السعى طلبا للمحبة، وأملا فى الوصول والقرب، حتى إن مخرجًا «لا يعجبه العجب» مثل يوسف شاهين لم يتردد فى التعبير عن ذلك، عندما قال إن الله عوضه عن رحيل محمود المليجى بصلاح السعدنى، وهو الذى لم يمثل معه إلا فى عدد محدود جدا من الأفلام، إذ بدأت العلاقة بينهما، حسب تصريحات للسعدنى، عند عرض مسرحية «زهرة الصبار» نهاية الستينيات، وحضر يوسف شاهين بالصدفة لمشاهدتها، فأعجبه، وطلب مقابلته بعد العرض. وبعد هذا اللقاء، واظب صلاح على زيارة شاهين، الذى كان وقتها يحضر لفيلم «الأرض»، فكان من نصيبه دور «علوانى»، الذى لعب دورا كبيرا فى لفت الأنظار إليه، وقال إنه «شكّل بداية علاقتى الحقيقية بالسينما».
والمتتبع مسيرة وحياة الفنان الكبير صلاح السعدنى، يدرك أنه على الرغم من أن قدميه لم تمسا أرض محافظة المنوفية إلا لمرات معدودة، ولفترات محددة بزمن التصوير، أو فى زيارات متقطعة وقصيرة، تؤكد مواقع لا حصر لها على شبكة الإنترنت، أنه منوفى، وأنه من أبناء محافظة المنوفية، دون أن تذكر أى تفاصيل عن حياته فى محافظة ذات صيتٍ وشهرةٍ كالتى للمنايفة، أما السبب فى ذلك، فيرجع إلى أن الرجل بالفعل ينتمى إلى عائلة من أصول منوفية، لكنه ولد فى حى المنيرة بوسط القاهرة، المدينة التى تعلم فى مدارسها، و«تصرمح» فى شوارعها، وأزقتها، وحواريها، وتعلم فى مدارسها.. وهو ما تؤكده على الأقل كتابات شقيقه الأكبر، الكاتب الصحفى محمود السعدنى، الذى يكبره بستة عشر عامًا، والذى تحدث كثيرا، وكثيرا جدًا عن سنوات طفولته، وصعلكته، دون إشارة إلى قرية «كفر القرنين»، التابعة لمركز الباجور، التى تنتمى إليها العائلة، والتى ذهبت إليها والدته عندما اقترب موعد ولادته، وقيل إنه كان يتردد عليها فى ما بعد، لزيارة جده وخالاته، وقضاء بعض الوقت للاستجمام مع أفراد العائلة، كما قيل إنه بدأ بناء منزل بها قبل رحيله بقليل، لكن القدر لم يمهله لإكمال البناء. إلا أن صلاح كانت له قصة أخرى مع المنوفية والمنايفة، جعلته الأقرب إلى لقب «عمدة المنايفة» وإن لم يدخلها إلا كزائر، و«سفير المنوفية» فى قاهرة المعز، الممثل الأول لها على شاشة التليفزيون والسينما، وفوق خشبات المسارح فى عموم القطر المصرى.
يقول الفنان صلاح السعدنى فى أحد حواراته: «تربيت فى حوارى المنيرة، لكن معظم أصولى ريفية، وأكثر من ثلثى عائلتى ما زال يعيش على امتداد صعيد مصر من نجع حمادى وجزيرة شندويل حتى الإسكندرية، كما أن دراستى بكلية الزراعة فى جامعة القاهرة، جعلتنى أحتفظ بكثير من العلاقات مع عمد الريف، ومن بينهم لبيب سيدهم، عمدة كفر سلامة بمركز منيا القمح، فى محافظة الشرقية، وبالتالى لم أجد غربة كصلاح السعدنى الفنان، وبين شخصية العمدة سليمان غانم».
وبغض النظر عن اعترافه الشخصى، فلك أن تتأمل لهجة الفلاح غير العصية التى تنساب على لسانه، طيعة، طبيعية، ينطقها بغير تعب أو مشقة، ولا «عوجة لسان»، فتشعر أنها هذه هى طريقته فى الكلام طوال حياته، وليست مجرد شخصية رسمها قلم أسامة أنور عكاشة، وصورها إسماعيل عبدالحافظ. وهو ما تكرر كثيرا منذ «الأرض»، وحتى «الناس فى كفرعسكر»، التى كتبها منوفى آخر هو الروائى أحمد الشيخ.
ويبدو أن المنوفية ليست مجرد محافظة، كما يظن الكثيرون، فهى حالة وجدانية خالصة، أو قل هى جنسية متفردة بذاتها، ونوعية خاصة من البشر، فكل من اقترب من محمود السعدنى، أو شاهد صلاح السعدنى، عرف منذ الطلة الأولى هذه الصفة وأدركها، وربما كان ذلك أحد أسباب لمعانه، وتميزه سينمائيا وتليفزيونيا، فليس من قبيل المصادفة أن أول أدواره التى لفتت الأنظار، كان هو دور الفلاح البسيط، «علوانى»، فى فيلم «الأرض»، وهو الفيلم الذى كتبه منوفى آخر، هو الراحل الكبير عبدالرحمن الشرقاوى، وتم تصوير معظم مشاهده فى إحدى قرى المنوفية، هى «رملة الأنجب»، مسقط رأس الشاعر الراحل محمد عفيفى مطر، ولم يكن غريبًا أن يستحوذ بجبروته العارم على حلقات كاملة من «ليالى الحلمية»، وأن يكون ألمع أدواره على الإطلاق، هو دور العمدة سليمان غانم، بما أضافه إلى الشخصية من «لزمات» كعبارة «قووم إيه»، بطريقته الخاصة والمميزة فى نطقها، لتتحول مع الوقت إلى إحدى العبارات الأساسية فى نص الحلقات، ولتجبر الراحل الكبير أسامة أنور عكاشة على كتابة حلقات كاملة من الجزء الثالث، عبارة عن منولوجات مطولة للعمدة سليمان، يحكى فيها ما تيسر له من ذكريات، وقصص، وقيل إن صلاح السعدنى كان كثيرا ما يتدخل فى كتابة حوار الشخصيات التى يقوم بها، وقد أفصح عن ذلك فى فترة التسعينيات، عندما نشر بعض المقالات المتفرقة فى إصدارات مختلفة، وقال مقربون منه إنه لديه مكتبة ضخمة، اعتاد أن يقضى فيها ساعات طويلة، يقرأ أو يكتب، ولكنه لم ينشر سوى القليل من كتاباته، خصوصا عندما أدرك أن موهبته الأولى هى التمثيل، فكان أن تحولت الكتابة الأدبية إلى إحدى هواياته الخاصة، وربما كان ذلك سر علاقته بالكثير من الأدباء، الذين استطاع أن يقنع بعضهم بتحويل أعمالهم إلى دراما تليفزيونية.
وهو ما يؤكده السعدنى بقوله: «منذ سنوات كتبت سهرة تليفزيونية، ما زالت حبيسة الأدراج، وكنت أنتوى أن أمثلها وأخرجها بنفسى، وأيضا لى كتاباتى الخاصة، لكنى لا أدعى أننى مؤلف، بل أرى أن الفنون مكملة لبعضها، وكل فنان لديه هوايات أخرى، ولكن تغلب عليه موهبة أصيلة، وأحيانا أتدخل بوجهة نظر فى السيناريو الذى أمثله، يتقبلها منى الأصدقاء، ولكن لا يرفضها سوى الكاتب ضعيف الموهبة».
ومما قيل عن السعدنى، إنه كان يخشى ركوب الطائرات، ولم يستطع أن يتغلب على هذه الفوبيا، التى باعدت بينه وبين حصوله على تكريمات فى عواصم عربية عدة، ومنها أنه اعتذر عن عدم حضور أحد المهرجانات فى تونس، لأنه عندما جلس ليحسب كم عدد الساعات التى يستغرقها السفر بالسيارة إلى هناك، فوجئ بأنه يحتاج إلى أسبوعين على أقل تقدير.
عاش صلاح السعدنى الكثير من الحالات، وجسد الكثير من الشخصيات، فكان على طول مسيرته، كالنهر المتدفق بالإبداع، بإطلالته المتفردة، وأدواره شديدة الثراء والتنوع، منذ أن سطعت موهبته فى منتصف الستينيات، وإلى سنوات طويلة مقبلة.. فإذا لم يكن ممكنا لأحدٍ أن ينسى «الأسطى حسن أرابيسك»، أو «نصر وهدان»، «كفرعسكر»، فإنه من المؤكد أن عموم مواطنى «المنوفية» لا يزالون يتمثلون شخصية «العمدة سليمان غانم»، معالى سفير المحافظة فى مصر المحروسة.