بالعربى الفصيح
عيوب الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» أكثر من أن تُعد أو تُحصى، لكن له فضيلة واحدة يجب أن نذكرها له: صراحته الفظّة إلى حد الفجاجة، أو لنقل الوقاحة، أو الصفاقة، أو إلى أى حدٍ تشاء!.
بعد عقودٍ من أكاذيب الرؤساء الأمريكيين، الذين أتقنوا لعبة النفاق والمداورة، واعتادوا أن يمنحونا من أطراف اللسان حلاوةً، وأن يغرقوا إدراكنا، ويخدِّروا وعينا بكلماتٍ معسولة عن السلام والعدالة والحرية والاعتدال، فيما يُغدقون على عدونا الإسرائيلى، من ترساناتهم الحربية، الأسلحة الحديثة، بكل كرمٍ وأريحية، ويفتحون له مخازن الذخيرة يغرف من أحدثها، و«بلوشى»، كيف يشاء، بل وصل الأمر إلى حد أن تصله الطائرات بطياريها، لإنقاذه من مصيره المحتوم، كما حدث فى حرب ١٩٧٣!
بعد كل هذا وصلنا إلى محطة الرئيس «ترامب»، الذى أعلنها، وبكل وضوح، فى حديثه إلى صحيفة «واشنطن بوست»، (٢٨ نوفمبر الماضى)، ودون لفٍّ أو دوران، وياليت العرب، والفلسطينيين بشكلٍ خاص، يُدركون مغزى قوله: «إن السبب الوحيد لبقاء القوات الأمريكية فى الشرق الأوسط هو حماية إسرائيل، بعد أن أصبح البترول سببًا أقل أهميّة للبقاء، لأننا ننتج الآن بترولًا أكثر من أى وقتٍ مضى».
فـ«ترامب» الذى استطاع «تنظيف» جيوب العرب الأغنياء، بما فرضه عليهم من «إتاوة» تُقدَّر بمئات المليارات، نظير حمايتهم، ولأنهم «لن يبقوا أسبوعين على عروشهم، دون الحماية الأمريكية»، كما قال بطريقته المعهودة- أعلن هذه المرّة أن الداعى لوجود أمريكا فى منطقتنا- هو حماية أمن إسرائيل، وضمان بقائها، والحِفاظ على وجودها وعلى استمرار هيمنتها.
والحق أن هذا الأمر لم يكن مجهولًا، إلا لمن عشيت عيونهم، أو كان فى قلوبهم مرض، فمنذ بداية المشروع الغربى- الصهيونى لزرع إسرائيل فى منطقتنا، بهدف تمزيق لُحمتها، ونهب ثرواتها، والانقضاض على كل محاولات نهضتها، ثم بالذات بعد اضمحلال الإمبراطوريتين الاستعماريتين: البريطانية والفرنسية، ووراثة الإمبراطورية الأمريكية الفتيّة، الصاعدة بقوة، مهماتهما ونفوذهما، كان الدور الأمريكى فى احتضان الدولة الصهيونية، ورعاية مصالحها، ودعم توسعها، وتغذية عدوانيتها، أمرًا واضحًا كل الوضوح، ولم يمر على البيت الأبيض الأمريكى رئيس لم يتغزّل فى الدولة الصهيونية، أو يتقرّب لها بكل السُبل، ويفتح أمامها خزائن ومخازن أغنى الإمبراطوريات العالمية، وأكثرها إنفاقًا على التسليح والتدريع، فى البر والبحر والجو!.
والمعنى الصريح لكلام الرئيس الأمريكى أننا سنشهد، والقضية الفلسطينية ستُعايش، خلال العامين الباقيين من ولاية «ترامب» الأولى، وفى الولاية الثانية، إن فاز بها، ما لم نشهده طوال فترات حُكم الرؤساء الأمريكيين السابقين، على ضخامة حجم ما عاصرناه من ويلاتٍ ومصاعب معهم جميعًا، لا نستثنى منهم أحدًا!
والمؤسف أن هذه المعركة الطاحنة الجديدة، المفروضة علينا فرضًا، بفعل عواصف وزوابع الرئيس الأمريكى التى لا تهدأ، تأتى فى ظل ظروف هى الأصعب لدول المنطقة عامةً، ولفلسطين على وجه الخصوص. فالدول العربية جميعه دون استثناء دول مأزومة، فهى إما فى أتون حرب أهليّة شاملة، أو تواجه تهديدات إرهابية خطرة، أو تتعرض لحصارٍ مُحكم، أو واقعة تحت نير ابتزازٍ مفضوح، وبحيث لم تعد، إلا فيما ندر، تملك فائض طاقة، أو إمكانات، تُقدمها للقضيّة، (التى لم تعد مركزية)، قضية فلسطين، وبعضها آثر السلامة فأخذ يهرول للارتماء فى أحضان «العدو التاريخى»، قبل أن تفوته القافلة!
وبالعربى الفصيح، لا تكاد تشبه حالة منطقتنا هذه، إلا حالة دول المنطقة حينما وقعت ضحيّة انقسام صفوفها، وتوزُّع إرادتها، وتنازع أمرها، وضياع شأنها، مع صراعات المماليك وملوك الطوائف والأغوات، فانفلت عقالها، وتفتتت همّتها، وتمزقت رايتها، وتكالب عليها الأكلة من كل صوبٍ وحدب!.