جريمة إحراق التاريخ
فى الثامن عشر من ديسمبر عام ٢٠١١، احترق المجمع العلمى العريق فى القاهرة، وتابع كل المصريين على شاشات الفضائيات المراحل الأولى لاحتراقه، منذ محاولات كسر نوافذه المطلة على شارع قصر العينى، ومحاولات اقتحامه من الداخل، فى سابقة تُعتبر الأولى منذ احترقت القاهرة عام ١٩٥٢، وكان الفاعل مجهولًا للحكومة فقط، ولكنه معروف لمن قاموا بذلك.
تسببت أحداث العنف التى شهدتها القاهرة، فى احتراق مبنى أعرق المؤسسات العلمية فى مصر والعالم، وهو المجمع العلمى المصرى بعد إلقاء أشخاص مجهولين قنابل مولوتوف عليه لتلتهم النيران محتوياته بالكامل، وباحتراق المجمع المصرى العلمى، فإن خسارة كبيرة لحقت بالثقافة المصرية والتاريخ المصرى الحديث، من جرّاء هذا الحريق البشع وغير المبرر.
لا تقف الخسارة فقط على المبنى التاريخى، بل احترقت المكتبة التاريخية التى يضمها المبنى، والتى تتكون من أربعين ألف كتاب، أهمها كتاب «وصف مصر»، تلك الدرة الخالدة التى صنعها علماء الحملة الفرنسية، فخسارة حرق هذا الكتاب، الذى يتكون من ٢٠ مجلدًا، لا يمكن تعويضها كما لا يمكن تقديرها.
والبعض ممن لم يتبينوا حقيقة الأمر، يلقون بتبعية الاحتراق أو الصمت فى أحداث القاهرة المشتعلة على أجهزة الأمن المصرية، سواء الشرطة أو الجيش والثوار، دون أدنى تفكير فى الطرف الذى يهمه أن يحرق هذا المعْلَم التاريخى الخالد. طال حريق هائل المبنى التاريخى، وأتى على كل ما فيه من جرّاء كرات اللهب، التى كان يقذفها البلطجية والثوار والنشطاء، ممن كانوا يستعرضون أمام كاميرات الفضائيات.
إنها مأساة تاريخية كبرى توازى كارثة حريق القاهرة فى يناير ١٩٥٢، فالمبنى المحترق ليس سينما، ولا مطعمًا، ولا مبنى عاديًا، ولكنه تاريخ أمة وتراث وطن.
الحريق أتلف كل محتويات المجمع الذى يضم كل المؤلفات والمقتنيات منذ عام ١٧٩٨ حتى اليوم، وهذا المبنى الأثرى يضم حوالى ٢٠٠ ألف كتاب، واحتراقه بهذا الشكل يعنى أن جزءًا كبيرًا من تاريخ مصر انتهى.
وعبر شاشات التليفزيون، وعبر ما ذكره شهود العيان، كان هناك دخان كثيف انتشر أعلى المبنى فيما حاولت قوات الإطفاء السيطرة على الحريق وإخماده، غير أن أشخاصًا مجهولين واصلوا إلقاء الحجارة على قوات الإطفاء، ومنعوها من التحرك وأعطبوها، كان ذلك أمام كاميرات الفضائيات، والغريب أنه فيما بعد حُوكم رجال الشرطة بقتل المتظاهرين، مع أنهم لم يخرجوا من ثكناتهم، ومن قُتلوا كانوا على أعتاب تلك الثكنات.
الغريب أنه لم يكن أحد يفكر أبدًا فى كارثة بهذا الحجم، لأجل هذا ظلت هذه الكتب والمخطوطات متروكة طوال هذه السنوات دون أى حماية كافية أو وسيلة حفظ تليق بقيمتها التاريخية.
والبعض يتساءل: لِمَ لمْ يتدخل الجيش والشرطة والمطافئ؟، البعض يعتقد بوجود تواطؤ مريب وصادم فى عدم تحرك عربات المطافئ لإخماد النيران، فقد أكد أحد شهود العيان فى واقعة المجمع العلمى أن إدارة المطافئ لم تتحرك، عن عمد، وقابلت الأمر بقدر من اللامبالاة.
ولكن نسى البعض أو تناسوا أنه فى هذا الوقت كان قادة الشرطة يمثلون أمام محاكم الجنايات بتهم لم يرتكبوها قط، وكانت القوات المسلحة مشغولة بتأمين البلاد من أقصاها إلى أقصاها، ونسينا تسرب الفلسطينيين من أنفاق غزة، وتدفق الأسلحة من كل الاتجاهات، وربما نسى البعض أيضًا أنه كان هناك تنظيم محكم ومنظم وله قيادة وميليشيات تأتمر بأمر قادته، وكانوا يتحركون بإحكام شديد، وفضلًا عن هذا كانت لهم أموال وزعوها على معظم النشطاء فى مصر الخلاصة أنهم هم من كانوا يحكمون بالفعل وكان بوسعهم أن يمنعوا ما حدث لو أرادوا.