دولة الإرهاب
فى شهر يوليو الماضى، وبعد مرور سبعين عامًا على اغتصاب فلسطين وتأسيس الدولة الصهيونية، أصدرت إسرائيل «قانون يهودية الدولة»، الذى بموجبه أعلنت على الملأ أنها دولة عنصرية خالصة، موقوفة على أبناء الديانة اليهودية وحدهم، دون غيرهم من أصحاب الأديان والمعتقدات، أو القوميات والأجناس الأخرى!.
الحقيقة أن هذه الغاية ليست بمستحدثة فى مسار الدعوة الصهيونية، لكن إخفاءها، والتستُّر عليها بدهاء، كان أمرًا ضروريًا لتمرير المشروع الاستعمارى الصهيونى، تحت ستار الحرّيات الإنسانية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، خاصةً أن أخطار النازيّة العنصريّة التى هدّدت البشرية بالخراب، كانت لا تزال حيّة فى العقول والضمائر، وكان من الصعب إعلان النيّة بتأسيس دولة للصهاينة ذات أبعاد مشابهة.
يكشف «توماس سواريز»، مؤلف كتاب: «دولة الإرهاب: كيف قامت إسرائيل الحديثة على الإرهاب»، الذى بدأنا الحديث عنه فى المقال السابق، جذور هذا التوجّه، الذى أُعلن عنه بعد عقود طويلة، أى استخدام الدين لتحقيق الأغراض السياسية، فيقول إن «الأقوال الأيديولوجية التى (كانت) تصدر عن المشروع الاستيطانى، بدءًا من (حاييم) فايتسمان و(ديفيد) بن جوريون، وصولًا إلى عصابة ليهى الإرهابية المتعصّبة، ظلت تصدر مُغلّفة بلغة خلاصيّة، ومن هذه الأقوال: الصهيونية تُشيِّد الهيكل الثالث، المملكة الأخيرة، بعث يقوم من رماد الهيكل الثانى، ومن هيكل سليمان الذى يرد ذكره فى النصوص غير المعتمدة. معاركها، أعداؤها، انتصاراتها، كلها ذات صبغة توراتيّة، والدولة التى أوجدتها هيئة الأمم المتحدة بقرارها رقم ١٨١ كانت بعثًا لتلك التى خلقها الله!».
ومن المهم تَذَكّر أن قادة هذا «المشروع»، وهم من «غير المؤمنين»، الذين كانوا لا يخفون اجتراءهم على «خرافات الدين اليهودى»، والذين اعتبروه مجرد «حافلة» ينبغى ركوبها للوصول إلى «محطة» الهدف المطلوب: أى الدولة، ومنهم «بن جوريون»، أول رئيس لوزرائها، كان، حسب نص الكاتب: «يضع نفسه بين الأنبياء بادِّعائه أن انتصاره فى سنة ١٩٤٨ شكّلَ الحدث الحاسم الثالث فى تاريخ اليهود كله بعد الخروج من مصر، وبعد تلقّى موسى الوصايا العشر على جبل سيناء»!.
لقد «دمج» «بن جوريون»، كما يرى الكاتب، مشروعه الاستيطانى بنصوص العهد القديم، و«أهمل آلاف السنين من حياة اليهود التى مضت بينهما بإنكار كونها جزءًا من التاريخ اليهودى»، ولم يكن صدفةً الادّعاء بضرورة «إعادة تشكيل قومية عرقية بعد نفيها على مدى ألفى عام»، وكأن المورّثات الجينية لقبيلة من القبائل- كما يقول المؤلف- قد جُمّدت على مدى آلاف السنين، وأن فلسطين ليست سوى إناء زجاجى من الآنية التى يستخدمها العلماء فى مختبراتهم، حيث يمكن بومض من البرق أن يُعيد الحياة إلى تلك الموِّرثات، ليدهش علماء الأنثروبولوجيا!
ومن هنا ندرك نقاط التلاقى بين الغرماء الظاهريين الذين يتخفون خلف رداء الدين، الإسلامى واليهودى، فكلاهما ينبع من جذر أصولى واحد، يستدعى المطلق لاستخدامه فى صياغة الواقع النسبى، ونفهم لماذا لم تُطلق جماعات الإرهاب التى اختطفت الدين الإسلامى، كداعش والقاعدة وتنظيم بيت المقدس، وغيرها، رصاصة واحدة على إسرائيل، بدلًا من أن تصب جام حقدها على بلادنا وشعوبنا!.
ويُعرّى الكاتب تآمر قادة الحركة الصهيونية مع النازية، لإجبار اليهود على الاتجاه نحو فلسطين، بل جرائمهم البشعة لمنع تنفيذ اقتراحات دول أوروبا بإيجاد «ملاذات آمنة» لهم، حتى لا يكون أمامهم إلا سكّة واحدة: التوجّه شرقًا باتجاه «القدس»!
وفى المقابل فهو يُبرز كفاح الفلسطينيين ضد المحتل الغاصب، واحتجاجاتهم مسلمين ومسيحيين، منذ عام ١٨٩١، ضد حلول المستوطنين الصهاينة محلّهم، فى المستعمرات الصهيونية التى كانت قد بدأت تلتهم أراضى الأجداد!.