إيمان النجار.. الفقد يليق بالجميلات
يومان، أحاول أن أتواصل معها، وهى لا ترد. اتصلت بـ«وفاء» شقيقتى الثانية، وقبل أن أنطق ابتلعت سؤالى: «إيمان» عاملة إيه النهارده؟.
أعرف أنها مشغولة بعالمها الجديد، تستكشف مفرداته، مكوناته، تحاول أن تتوازن بعد المرور بنفق اللامكان واللازمن، ربما مازالت واقفة على الباب مترددة فى الدخول، أو خطت، خطوة أو خطوتين، لكنها تهاب الاستيعاب والاندماج، الأبدية فكرة مخيفة، ثقيلة، رتيبة، مملة.
هل ستجد من يرشدها؟، السلسلة طويلة. ألهذا أصرت أمى على دفنها بجوار جدتى؟، بالطبع كل الأشياء مختلفة والمعايير والمقاسات.. ربما يكون اليومان اللذان مرا علىّ هنا فى انتظار أن تتواصل بى وتطمئن قلبى عليها، ربما تكون هناك مجرد لحظة وهى لا تعرف ثقل الساعات التى تمر هنا علىّ، ربما مازالت تجلس مع «هناء» ابنة خالنا التى لم يتح لها أن تسجل مشروع الماجستير فى النقد الأدبى، الحكى عن أبطال الدراما التليفزيونية يحتاج الكثير من الوقت. أو ربما التقت بـ«محمد» ابن خالتنا الذى لم يتخرج من جامعته واصطحبها ليلعبا «الويجا».
لا أعرف كيف ستتواصل معى تحديدًا.. الأقرب لذهنى أن آراها فى حلم: رقيقة كما كانت وقد تخلصت من تشنجات وعذابات الألم واستعادت عافية جسدها وبهاء روحها.
قد أراها على شاطئ بحر، والأمواج تتكسر من حولها، ونحن نحذرها من الموجة القادمة فهى قوية وقد توقعها لكنها ستفاجئنى أنها قد تحولت إلى سمكة فضية من راكبى الأمواج أو إلى طائر نورس لا يصيب رذاذ الموج ريشه الأبيض. براح البحر وانسياح حدوده قد يكون مناسبًا أكثر للرحيل، وهى قد رحلت بالفعل، أم أننى لا أريد أن أصدق، وتختلط لدى الرموز؟.
الحدائق الواسعة والخضرة المطعمة بألوان مبهجة تليق بالحضور الأبدى، فربما يأتينى طيفها مندمجًا فى تأمل طويل.. جلسة يوجا كالتى اعتزمنا الاشتراك بها، أو ربما تجلس على مجرى مائى، تحفه الأعشاب وفى يدها كتاب «كيف تستعدين لدخول طفلك المدرسة؟» أو ربما تجلس على دكة خشبية فى مواجهة بحيرة سويسرية شاهدتها فى صورة رحلة صيفية لمدرسة ابنتى.
كنا قد اتفقنا إن تحسنت حالتها الصحية قليلًا واستطاعت الخروج أن نتناول الغداء فى مطعم البحيرة فى الأزهر بارك.. سيكون تجمعا نسويًا نصطحب معنا شقيقتنا وفاء وابنتها نورا، وابنتى مريم وابنتها ملك.. ثلاث شقيقات وثلاث فتيات يمثلن الجيلين الثالث والرابع من عائلة موسومة بالحزن والفقد.
لكننا نذهب للأزهر بارك، ولم نذهب لفندق «وندسور» فى محطة الرمل، ولم نذهب للعمرة معًا.
أشياء قليلة استطعنا مراوغة ألمها وقمنا بها، آخرها مشاهدة فيلم «قلب أمه»، كانت سينما «فاميلى لاند» خالية، فى هذا اليوم لم يحضر عرض الرابعة عصرًا سوانا أنا وهى وأطفالنا الثلاثة، كان عرضًا خاصًا بالمصادفة، حتى إن طفلتى «مريم» وطفليها «ملك» و«محمد»، كانوا يلعبون الاستغماية فى قاعة العرض، وتشجعت مريم ووقفت أمام شاشة العرض وبدأت فى تقليد رقصة وغناء هيو جاكمن فى فيلم «أعظم رجل استعراض فى العالم» وتبعها أبناء خالتها فى تقديم فقرات فنية مرتجلة وضاحكة. فى طريق عودتنا على كورنيش المعادى، أخذت تردد مقطعا من أغنية: never enough وكانت ترثى حالها: too much too much is never enough.
فى ألمها عاشت عامًا كاملًا، ما بين سبتمبر الصدمة والسعى لمخرج وما بين سبتمبر الاستسلام وتمنى الخلاص، مرت علينا كل فصول السنة فعرفنا كيف يكون الألم قاسيًا حادًا فى الشتاء، مضجرًا مملًا فى الصيف، برائحة الحرائق فى الخريف، بطعم العلقم فى الربيع.
أعرف أننى متطلعة ولدى توقعات كبيرة، ولكن علىّ التمهل والصبر، سأتفهم تأخرها فى التواصل معى، ولأننى لم أكن لأنازع الناس مكانتهم ولا مراتبهم، سأنتظر أن تزور ماما أولًا، لكن أمى سيدة كتومة، لم تجبرها الحياة على البوح أو الفضفضة.. لا أعرف كيف أسألها؟، ربما تتجلى معجزة فقدك.
فتقطع ماما حديثًا اعتياديًا بيننا وتقول لى:
- إيمان جاءت لى فى الحلم.. كانت لابسة أبيض فى أبيض ولديها جناحان تطير بهما، وكنت أسمع صوتى يناديها: إيمان، إيمان،.. لكنها لم تكن منتبهة لى، كانت تلعب وتطير من شجرة لشجرة وقبل أن أتضايق لأنها لا تسمعنى، قطفت وردة ومدت يدها لى.
حينئذ سأنتظر دورى الذى لن يغيب.