هذا التحرش المفترى عليه
-يظن البعض أن الرجال وحدهم هم الذين يندفعون إلى التحرش بمعنى المغازلة وهذا غير صحيح.. النساء أيضًا قادرات على التحرش
يتسع مفهوم التحرش ويغدو مطاطًا وغير محدد يومًا بعد يوم، وينزلق بوعى أو من دون وعى من رفض الوقاحة أو استغلال النفوذ فى عملية التحرش، إلى كراهية الطبيعة البشرية النفسية والجسدية التى يسكن الغزل فى صميمها.
هكذا يضيع الخط الفاصل الواضح بين الجانب الاجتماعى الذى نواجهه فى التحرش، أى استغلال النفوذ أو التعدى باللفظ أو بالأيدى، والجانب الإنسانى لدى المرأة والرجل منذ أقدم الأزمنة. وينحدر البعض من إدانة «التحرش» إلى إدانة المرأة، وجسدها، والطبيعة، والحب، وتصبح حتى قبلات الأطفال البريئة مادة تنظر فيها المحاكم. وقد حدث بالفعل أن تقدم والد طفلة صغيرة فى البحيرة ببلاغ إلى النيابة ضد طفل فى الرابعة من عمره، لأنه قبَّل البنت القزعة فى دار الحضانة. إلى هذا الحد بلغ الهوس! ونظرًا لعدم اختصاص المحكمة التى عرضت أمامها القضية، فقد حولتها إلى محكمة الأحداث. هناك تأمل القاضى ذلك المتهم الصغير والمجرم الخطير المحمول على ذراع والده، وقال له مبتسمًا: «روح بيتكم يا حبييى عشان ماما زمانها جايه»، ووصف والد الطفل المقيم بمدينة حوش عيسى بالبحيرة حالة ابنه أثناء المحاكمة بقوله: «لم يكن محمد ابنى يدرك أى شىء، كان يظن أنها لعبة وأن القاضى والحاضرين يلعبون معه»، هناك جانب طبيعى، وهو الأكبر والأهم، فيما يسمى التحرش، أعنى عملية جس النبض المتبادلة بين المرأة والرجل، بكلمة، ونظرة، وإيماءة، على أن يتم كل ذلك بالمودة والاحترام. وإذا أنكرنا أن عمليات الاستطلاع والاستكشاف بين الرجل والمرأة أمر طبيعى، فإننا نخدع أنفسنا ونتعامى عما هو من صميم الكائن الإنسانى. ويظن البعض أن الرجال وحدهم هم الذين يندفعون إلى التحرش، بمعنى المغازلة، وهذا غير صحيح، النساء أيضًا قادرات على التحرش. انظر ما كتبته فى فيسبوك سيدة عربية مقيمة فى أوروبا: «الرجال لا يغازلون النساء فى الشوارع فى البلدان الغربية، إلا فى حالات قليلة.. وهذا يصيب النساء القادمات من البلدان العربية بالخصوص بالكثير من الكآبة عند بداية قدومهن، وعند بعضهن يؤثر الأمر على درجة الثقة بالنفس.. هذا موضوع مسكوت عنه وربما لو تناولناه بالدراسة، فسنكتشف حقائق مدهشة عن سيكولوجية المرأة». هل يمكن أن نعتبر المغازلة تحرشًا إذا اعتبرتها المرأة ضرورة حيوية طالما كانت فى الحدود الإنسانية؟ يتأكد ما أشارت إليه تلك السيدة بقول الروائى الشهير «باولو كويليو»: «التحرش مفهوم تم استنباطه لكى تشعر نساء العالم قاطبة أنهن مكروهات»، تعتبر المرأة أن التحرش فى شروط مهذبة أمر طبيعى، الأكثر من ذلك أن المرأة تكون فى بعض الأحيان هى المبادرة، ونحن قلما نسمع عن ذلك لأنه لم يحدث قط أن أعلن رجل أن امرأة تحرشت به ولا قام رجل برفع قضية تحرش ضد امرأة، مع ذلك فإنى ما زلت أذكر حديث النجم حسين فهمى فى أكتوبر العام الماضى الذى قال فيه إن هناك نساء كثيرات تحرشن به فى المصاعد وفى الفنادق وكان يضطر أحيانًا للاستعانة بالبوليس! ولا أظن أن هذا النجم الحالة الوحيدة.
وخطورة المبالغة فى موضوع التحرش، أنه ينزلق من معالجة التحرش كظاهرة اجتماعية يجب التصدى لها، إلى ترويج مفاهيم أخرى تقوم على أن سلوك الإنسان الجنسى ورغبات الجسد هى منبع الشر فى العالم، وأن علينا ونحن نحتقر المتحرش أن نحتقره لأنه تدنى ووقع فى غرام الجسد، على حين أن «عشق الروح مالوش آخر»! وقد شهد القرنان السابع عشر والثامن عشر انتشار جماعات دينية فى روسيا وأوروبا تنادى كلها بأن الشهوة أساس كل الشرور، وذهب بعضها إلى حد الدعوة لاستئصال ثدى المرأة، وأجريت بالفعل أول عملية من هذا النوع لأنثى عام ١٨١٥، ثم تلاشت تلك الجماعات. علينا أن نضع خطًا فاصلًا بين الحرب على التحرش، والحرب على الطبيعة، بحيث لا يصبح التحرش حصان طروادة تمر بداخله قوافل الجهاد ضد الطبيعة، والحب، والمغازلة. ولا أدل على انزلاقنا إلى كراهية الطبيعة من حملة قادتها بعضهن فى أغسطس العام الماضى على السبّاحة المصرية العالمية فريدة عثمان، لا لشىء إلا لأن فريدة عثمان كانت ترتدى «مايوه» غير محتشم، وبعبارة أخرى لأنها لم تنظر إلى جسدها بصفته عورة جديرة بالإخفاء.
يوجز صلاح جاهين القضية كلها فى إحدى رباعياته الجميلة قائلا: «النهد زى الفهد نط اندلع.. قلبى انهبش بين الضلوع وانخلع.. يا اللى بتنهى البنت عن فعلها.. قول للطبيعة كمان تبطل دلع». التحرش بمعنى التعدى واستغلال النفوذ مرفوض، أما التحرش الجميل المهذب فأمر فى صميم الطبيعة، فى البشر وفى الزهور وفى تلاقى الأمواج، والطيور المزقزقة.