موسكو- أنقرة.. حقول ألغام وزهور
عشت فى روسيا مدة طويلة فى عهد اصطلح على تسميته «مرحلة الركود»، زمن ليونيد بريجنيف الذى منح نفسه أعلى جائزة أدبية عن كتب لا هى أدبية ولا هو كتبها، حتى شاعت نكتة أنه بعد أن نشر أحد كتبه، سأل رئيس وزرائه عن رأيه فى الكتاب فقال له رئيس الوزراء «عمل رائع»!، فاستفسر منه بريجنيف: «يعنى يستاهل أقراه؟»!.
عشت أيضًا جانبًا من مرحلة التحولات العاصفة التى قادها جورباتشوف، ثم تسنى لى منذ خمس سنوات القيام بزيارة خاطفة إلى موسكو، فرأيت روسيا وقد استقرت وغرست قدميها فى الرأسمالية العالمية، وراحت تتأنق وتضوى وتفوح بالعطر وتدارى خلف أنوارها الساطعة بؤس الملايين. ورغم تناقضات السياسة السوفيتية حينذاك، إلا أننى كنت قادرًا على فك ألغازها أو بعض ألغازها. لكنى منذ مدة طويلة أمسيت عاجزًا عن تفسير الكثير من توجهات السياسة الروسية الجديدة. المعروف أن هناك بونًا شاسعًا بين الرؤى التركية والروسية للموضوع السورى، كما تتعارض المصالح الروسية فى سوريا مع مصالح الدور التركى الذى فتح الحدود للمرتزقة، وأمدهم بالمال والسلاح ليشاركوا فى الحرب على النظام السورى، وبسبب ذلك كله تعرضت العلاقات بين البلدين لأزمات حادة ظهرت فى الموقف التركى المناهض لروسيا فى إقليم القرم، ثم بعد إسقاط الأتراك مقاتلة حربية روسية فى نوفمبر ٢٠١٥، واغتيال السفير الروسى فى أنقرة. وبالرغم من اتساع حقول الألغام السياسية بين البلدين، إلا أننا نقرأ يوم الجمعة ٣١ أغسطس الماضى تصريحًا للرئيس أردوغان بأن تركيا ستتسلم أنظمة دفاع صاروخية روسية «S-400» قريبًا، فى الوقت ذاته يعلن السياسى الروسى فلاديمير جيرينوفسكى أن تركيا لا تمانع فى إقامة قاعدة عسكرية روسية على أرضها، وأن من الممكن إغلاق قاعدة إنجيرليك فى جنوب تركيا الواقعة تحت سيطرة «ناتو» وتحويلها إلى الجانب الروسى. على الصعيد الاقتصادى قفز حجم التبادل التجارى بين البلدين من أربعة ونصف مليار دولار عام ٢٠١٦ إلى حوالى ثلاثين مليار دولار، وسبق ذلك إلغاء تأشيرة السفر المتبادلة بين البلدين. نحن إذن أمام صورتين، إما أن العلاقات بين موسكو وأنقرة وردية، أو أنها متفجرة، وأظن أنها هذا وذاك فى الوقت نفسه، فهى تتفجر بهدف تعديل مواقف الأطراف، وتصبح وردية لاجتذاب الأطراف، ذلك أن روسيا لا تزال بالنسبة لتركيا القوة النووية الثانية فى العالم، وكانت وما زالت الدولة الأضخم مساحة بين دول الأرض قاطبة، بكل ما يعنيه ذلك من ثروات وقدرات. أما تركيا فإنها بالنسبة لروسيا عضو حلف الناتو الذى ينبغى اجتذابه إلى الفلك الروسى وانتزاعه من الحلف. ورغم التباين الظاهر فى سياسة كل بلد تجاه الموضوع السورى، إلا أن الموقفين يتلاقيان فى المحصلة النهائية بانخراط أنقرة وموسكو فى القتال المشتعل الذى يدور ليس بهدف إسقاط الرئيس الأسد، لكن لهدم سوريا وهو الهدف الأساسى الأهم من أى رئيس. أقول إن الموقفين يتلاقيان لأن الطرفين ينخرطان فى الحرب وتوسيعها، وليس فى وقف الحرب وإخمادها. أعنى أنه كان على موسكو مع غيرها من القوى الدولية، أن تضع خطة لحصار المنافذ البرية والبحرية التى تتلقى السلاح وتمر عبرها الجماعات الإرهابية المأجورة، بدءًا من الإخوان المسلمين وقوات داعش وجيش الاسلام، مرورًا بكل الذين لم يطلقوا رصاصة قط فى اتجاه إسرائيل عبر تاريخهم المخزى. لكن تغذية الأطراف الدولية المتصلة للحرب ترمى أو تؤدى فعليًا لهدم سوريا وليس لإسقاط أو تبديل نظام، ومن هذا المنظور تتساوى كل الأدوار فى الواقع الفعلى. الموقف ضد الحرب كان يعنى حصار الحرب وليس تحويلها إلى ساحة لاختبار القوة، ولى الأذرع، والضغط لتغيير مواقف القوى المختلفة.
أيام الاتحاد السوفيتى كنا ونحن طلاب فى جامعة موسكو، نتردد مجموعة على «الحمام الروسى» الذى يقوم على حجرات «ساونا» ساخنة ومسبح بارد وسعف نخيل تضرب به الظهور لتسخين الجلد. فى تلك السنوات كان ذلك الحمام متعة قومية رخيصة الثمن وعيدًا صغيرًا للعائلات وحفلة سمر للأصدقاء. هناك التقينا مجموعة من العراقيين المهاجرين شكلوا فى حينه جمعية أطلقوا عليها من باب الفكاهة اسم «جمعية ملعون أبوالوطن»، واتخذوا من الحمام مقرًا للاجتماع الأسبوعى! وحين قمت بزيارة خاطفة إلى موسكو منذ خمسة أعوام، سألت زوجة أحد الأصدقاء هناك عن سعر دخول الحمام الروسى الآن بعد التحولات الاقتصادية، فقالت لى: أربعون دولارًا للفرد!. همست لنفسى: الحمد لله إنى لحقت الاشتراكية وشبعت نظافة فى عهدها الرخيص. لاحظت زوجة صديقى شرودى فقالت تهون علىّ: يا سيدى والبانيو اللى فى الشقة ماله يعنى؟!. كدت أقول لها إنه لم يعد بوسعى الآن التمتع بمباهج الحياة الروسية الجديدة، ولا بوسعى فهم السياسة الروسية الجديدة، فإما أننى كبرت، أو أن كل شىء قد تبدل، لكن المؤكد أن زمان كان كل شىء سهلًا.