فى وداع د. سمير أمين
اللافت فى مسيرة د. سمير أنه لم يكتف بـ«التنظير» من برج عاجى كما يفعل الكثيرون إنما قرن الفكر بالعمل وتحمل مسئولية تقديم الدعم والاستشارات المخلصة والنزيهة لدول إفريقية عديدة
توقف منذ أيام قلب د. سمير أمين -المناضل، والمفكر، وعالم الاجتماع والتاريخ الاجتماعى والاقتصاد، والشخصية العالمية المناهضة للعولمة الرأسمالية المتوحشة «الأمركة»- عن الخفقان، بعد أن عاش ٨٧ عامًا، مكافحًا صلبًا فى سبيل القضايا التى آمن بها، وبذل قصارى جهده من أجل نصرتها، قضايا تقدم بلاده مصر، وانتصار حركات التحرر فى العالم، ورفع راية الاشتراكية والعدل فى العالم أجمع.
وُلد «سمير أمين» لأسرة وطنية تقدمية، ولأب مصرى وأم فرنسية، فى صدر طفولته هَزَّ وجدانه الغض مرأى طفل بائس يبحث عن بضع لقيمات يقتات بها فى صندوق القمامة، فلما سأل والدته عن السبب، قالت له لأن «المجتمع السيئ يفرض ذلك على الفقراء»، فكان رده المباشر عليها: «سأغير هذا المجتمع»، وقد برَّ بوعده، حيث انتمى للاشتراكية فكرًا وتنظيمًا، ودَرَسَ، ودَرَّسّ علوم الاجتماع والاقتصاد والتحولات الاجتماعية والسياسية، فى أرفع معاهد البحث والمعرفة والتخصص، فى فرنسا والعالم، وجاب بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، مدافعًا عن حق الشعوب فى الاستقلال السياسى والاقتصادى، وداعيًا لاجتماع إرادة دول «الأطراف»، أو «الجنوب» الفقيرة، والمنهوبة الثروات، والمُستغَلة تاريخيًا، فى مواجهة مستغليهم من دول «المركز» الرأسمالى، الذى بنى تقدمه المادى على ركائز عدة، من أهمها استغلال مقدرات الشعوب، واستباحة أسواقها، ومصادرة حقها فى الاستقلال والتقدم.
كان «سمير أمين» واحدًا من المفكرين الكبار الذين شرّحوا آليات عمل المنظومة الرأسمالية المعاصرة، وانتقدوا- بشكل علمى وموضوعى- ممارساتها، ووضعوا الأسس النظرية لمدرسة «التبعية»، التى حللت مقومات المسار السياسى الاقتصادى العالمى القائم، وطرق استنزاف دول «المركز» للبلاد التابعة، وطرحت أساليب مواجهتها من منظور الفكر الاشتراكى، وتحقيقًا لمصالح الدول التى فُرضت عليها وضعية التابع.
وقد شرح هذا الأمر بالتفصيل فى العديد من أعماله الفكرية المهمة، التى يعرفها العالم أجمع، ومنها: «التبادل غير المتكافئ وقانون القيمة»، و«التطور اللامتكافئ»، «قانون القيمة والمادية التاريخية» وغيرها. كما نالت أوضاع مصر والعالم العربى اهتمامًا فائقًا منه، وقام بمتابعة أوضاعهما فى العديد من كتاباته: «أزمة المجتمع العربى»، «حوار الدولة والدين»، «ثورة مصر وعلاقتها بالأزمة العالمية»، «نقد الخطاب العربى الراهن».. إلخ.
واللافت فى مسيرة هذا العالِم الكبير أنه لم يكتف بـ«التنظير» من برج عاجى، كما يفعل الكثيرون، إنما قرن الفكر بالعمل، وتحمل مسئولية تقديم الدعم والاستشارات المخلصة والنزيهة لدول إفريقية عديدة منها مدغشقر، والكونغو، ومالى، وفيتنام، وكوبا، وغيرها، وترأس «معهد الأمم المتحدة للتخطيط الاقتصادى»، و«المجلس الإفريقى لتنمية البحوث الاقتصادية والاجتماعية» «كوديسيرا»، وشارك فى تأسيس «منتدى العالم الثالث»، و«منتدى البدائل» العالمى، وغيرها من مؤسسات مناهضة السياسات «النيوليبرالية»، والعولمة الأمريكية المتوحشة.
ولم ينس «سمير أمين» أبدًا وطنه وملاذه وموضع آماله وأحلامه مصر، فواكب أحداثها بالمتابعة والتحليل، وقدم رؤى ضافية لطبيعة الحكم الطبقية التابعة فى مصر، وللإسلام السياسى وأسسه الأيديولوجية، ولـ«ديكتاتورية العمائم»، التى لا تُقدم إلا تحويرًا للوضع التابع للرأسمالية المحلية، ولا تتعارض خطاباتها مع خطاب رأس المال الليبرالى للعولمة، وللأحداث العاصفة التى زلزلت البلاد فى عام ٢٠١١، والتى رآها: «أكبر من انتفاضة، وأقل من ثورة»، ذلك أن الثورة، بالمفهوم العلمى كما يرى «سمير أمين»، تقتضى توفر ملامح ومقومات، غابت عنها، وهو سبب تعثراتها، كما عرض رؤيته النافذة لحل أزمات مجتمعاتنا بالتحرر الناجز من شبكة علاقات «التبعية» ومستنقع رمالها المتحركة، عن طريق «الاشتراكية»، التى يرى فيها «ضرورة موضوعية لحل مشكلة التخلف».
هذه بعض من أفكار الراحل الكبير «د. سمير أمين»، الذى كان يُحب أن يُعَرِّفَ نفسه بأنه: «اشتراكى مصرى، ومثقف من العالم الثالث، ومناضل من أجل تحريره».