"سر السكر".. نوستالجيا بلا حنين مؤبد
عن الشغف والموت المستتر بين تيمات ثقيلة الوطئة وخفيفة السريان، ما بين إسراء كاشف ومعراج هامس، تجيء حكايات مريم حسين في مجموعتها القصصية أو متتاليتها "سر السكر".. حنين يراوغ المتلقى الظمآن لمحمية تستر خفقاته وسحقه لتبلل ريق القارئ المتعطش للسلوى بلا بدد يزيد.
تسعة عشر نصا في رحلة تبدأ بالكشف والإخفاء أيضًا ما بين الحنين أو النوستالجيا لزمن ولى وتوارى بلا انزياح، وتكمن روعة السرد وشفافية الحكايا من تلك البساطة المفرطة في ظاهرها والمحملة بمرارات العقود في السياسة والإخفاق والحب المجرد لتلك المحميات الدفينة في المكان، وبين البشر مع اجترار الروائح الحسية في كانفاه لضمت بالمعلن المستتر خلف قناع الرقي والتحضر من قبل الساردة التي ورثت العزة والحرية والشفافية في مراياها المتأرجحة ما بين الإخفاء والتموية على مستويات جمة مرتبطة تلك الارتباط الوثيق بالتجريد وعدم تحميل القارئ أو مستقبل الحدث أو الفعل أو زخم الحكايات في السرد المتعطش لثمة تلاق.
مع قارئ بعينه خبير بالخيبات ومعان الحب والفقد والحسرة والصمت والخرس تعويضا وليس ملاذا، تعويضا عن تفكك ما تلضمه أفراح الحياة الطبيعية التي تفتقدها روح الكاتبة الراوية التي استغنت بها عن الولولة في سكك التعاطف مع ما تكتب من قبل أي قارئ ما هش وسطحي.
في نصوص "سر السكر" تكمن الجواهر واللالىء والهوات والقطع والوصل من القاهرة 1954، وثمة رسائل بحبر القلب وجفوة المعلن في المأقي، كانت الردود في التأرجح بين أزمنة وأحداث الكيت كات وظلال إبراهيم أصلان، وصوت وروائح البيوت والأزقة، ترى الحسية المفرطة وكأنها زلزلة إنسانية تشير لهوات الجرم.
ما حدث للبشر وتطيير الأحلام والبدد، من الفيوم للقاهرة ورحلات الصيد مع الأب وبقايا رائحة البارود والطيورالخفاقة التي لم تذبح على يد الكاتبه كونها تأبى تلويث خارطة الذكرى؛ عن الجدة ورائحة النعاع وإهداء عفي مضمر ومستتر ومقصود بثقل وخفة للأب كراوي عليم مولع بالحكي وموغل في طرق عتباته وتهشيمها تحت مطرقة سطوة ما كان؛ بداية من سيرة الكاتب الأب والالتماس أيضًا مع أصل ومنبت تفجير النوستالجيا بلا حنين مؤبد.
مريم حسين عبد العليم التي نهلت من بئر الحكاء البارع وهو في خلفية الراوية كضمير لم يشفع له الحب ولا الجين ولا البراعة من قبل وليدته أن تبوح بسر نكهة القص والبوح، فكانت تلك الرشاقة وتوديع اللازمن واللعب على محمية ما يبحث عنها كل من فاته قطار الهروب من الضيق في العيش والحب والسكن وفراغات الإجابات وتكرار الأسئلة.
بلا وجود لثمة بلوغ لتخطي ما للكرى ولا البدد ففي المفتتح، في سر السكر، يكون تلك العتبة التجريدية المتأرجحة ما بين اليقين والعطش والبلوغ للذروة في التجلي، بل والتماهي المخاتل والمساهم في خداع القارئ كانت تلك الكلمات التي تشبة ظلال المرايا: "أنت كمشاهد الصباح الباكر في أفلام خيري بشارة؟!".. وتأتي تيمة الرسائل لتحتضن تيار بعينه في السينما والحب وطلاوة المشاعر وتأججها وليونة الحلم الغض في كادرات بشارة الحالمة وسخونة الزخم واللهث صوب كاميرا عاطف الطيب تحديدا في سكر مر. تحية عشق مستترة لتيار سينمائي حلم وعاش وفكر ونفذ الحب كما يجب وشهد أيضا على الخسارات والفواجع والمواجع، كأغنية التوديع بعد موت ذرياب الجميل، الحكايا كما تبدو للمشاهد ولقارئي سر السكر، تلتئم خارطة الحب والفقد تلك التي تشتبك مع حواس الكاتبة وتمثل ثمة دوافع محرضة على الكتابة بهذا الشكل، كفارق جوهري وحاد وقاطع بين ما ساهم في ترسيم حدود السياسة والفقد بأداة أسبق وأسرع السينما مثالا وبين من لبد في ثنايا تلك التفاصيل المدهشة في دولاب الجدة وصدرها الممتليئ بتلك الرائحة من عبق ما تواري في الواقع وبقي أريجه كانن ومكنون في محمية امرأة تناوش الحفيدة بتلك التفاصيل البسيطة من لعب البيت وغسيل الأطباق، وذكريات مترعة بالخفة والرشاقة والوجع للحاوي.
سكر مر تثبت بما لا يدع مجالا للشك بأن كاتبتها لم تزل قابضة على مكنونها بلا وهنا ولا ضعف ولا ثمة محاولات من قبل القارئ للتعاطف ولكنها تتنقل بخفة ورشاقة ودلال ما بين الأبيض والأسود الوردي والدانتيل في صرخة حريرية تنبيء بميلاد كتابة عفية وكاتبة موهوبة تخاتل القارئء وتدهشه ما بين الخفة والثقل والعذوبة بعيد عن مصطلح العفوية التي يخالها المتلقي ضعف وعدم دراية بمتون وأصول الكتابة في تلك التيارات الجارفة لنهر التجريد والخلاص بلا عتبات زمنية آمنة.