خمسة أساليب مغيّرة للحياة
يقول «بارى مايكلز» فى كتابه «الأدوات.. خمسة أساليب مغيّرة للحياة»: «نحن نحمى أنفسنا وراء حائط خفى ولا نغامر بالخروج من ورائه، لأن الألم قابع خلف هذا الحائط، وتلك المساحة الآمنة تسمى (منطقة الراحة)، وفى أكثر الحالات حدة يختفى الأشخاص خلف جدران البيت الحقيقية، خوفًا من المغامرة بالخروج للعالم الخارجى، وهذا ما يعنيه مصطلح (رهاب الخلاء)، ولكن بالنسبة لمعظمنا لا تمثل منطقة الراحة مساحة مادية، بل تمثل أسلوب حياة، نتجنب أى شىء قد يكون مؤلمًا، من منا لم يتخل عن شىء مقابل تجنب الألم.. تقديم أفكار جديدة، تجربة أشياء مبتكرة، نسير فى الجانب الآمن حيث لن يهاجمنا أحد ولن يسخر منا أحد».
يبدو أن المؤسسات الدينية فى بلادنا هى النموذج التطبيقى لفكرة «منطقة الراحة»، فتبدو هذه المؤسسات كنعامة تدفن رأسها فى التراب، وكسلحفاة تحتمى بقوقعة تثقل ظهرها وتجعلها تصل دائمًا متأخرة بعد انتهاء السباق، وكعجوز مترهل فقد استمتاعه بالحياة أحيانًا، وتواصله معها كثيرًا.
الأزهر على سبيل المثال لا يبدو فى حقيقته اليوم حصنًا للإسلام، ينطلق منه المسلمون إلى آفاق أرحب، فيلمسون النجوم ويصعدون للقمر ويطوفون المجرّات، لكنه مجرد مكان يختبئ فيه الذين يخافون الألم، يخافون المواجهة، يخافون الحياة ويركنون إلى «منطقة الراحة»، حيث تروس.. قال السلف، وأجمع الأئمة، والمعلوم من الدين بالضرورة.. المواءمة والترقيع مهارة يتعلمها الأزهريون وعيونهم متعلقة، لا بالله ولكن بأولى الأمر، مصريون حد الفرعنة، عرب حد الناس على دين ملوكهم.
وخارج «منطقة الراحة» يبدو إيمان رجال الدين هشًا وغير قابل للجدل، ثوابتهم مضطربة غير قابلة للاختبار أو المحن، تتهاوى أمام ضربات النقد أو التجريح، يخافون الضحك، الاستهزاء والسخرية، يستخدمونها أحيانًا كأسلوب للسخرية والاستهزاء بمن يحاول الاقتراب من موروثهم، من عمامتهم أو حتى جلبابهم الوهابى. لكن الضحك والسخرية ليسا مجرد نكت على المنابر أو فى الفضائيات لتزجية الوقت والترويج لبضاعة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، السخرية منهج يجعل كل الأشياء قابلة للتمحيص، للفحص، دون قداسة موروثة، هذه السخرية التى يخافها رجال الدين خافها من قبل رجال الدين المسيحى فى أوروبا فى العصور الوسطى، وكانوا يُحرمون الضحك على من ينضم لسلك الكهنوت.. هذا الخوف قاد بعضهم إلى الإثم والمعصية والقتل كما صور الروائى والمؤرخ «أمبرتو إيكو» فى روايته «اسم الوردة» ١٩٨٠، قبل أن يتحرر العقل الأوروبى من هيمنة كهنوت رجال الدين، ويتحررون من عقدة السقوط وهبوط آدم من الجنة إلى الأرض.. فيما نحن ما زلنا أسرى الخوف الدائم من شجرة المعرفة، من التجريب، من التجديد.. لماذا كل جديد هو بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار؟
يبدو وكأن ديننا أضعف ما لدينا، نتعامل معه كأنه عورة غير قابل للفحص والتدقيق. بأى إسلام نؤمن وبأى سلوك نعيش؟ لماذا يبدو الإسلام فى بلادنا وكأنه ليس إلا مجموعة من الحدود؟ وكيف نؤمن بأنه دين صالح لكل زمان ومكان ونحن نعيش به فى كهوف مظلمة تُحرم كل ما أنجزته البشرية من تراث إنسانى فى الثقافة والفكر والفلسفة؟.
لكى يكون الدين صالحًا لكل زمان ومكان، عليه أن يكتسى طابع هذا الزمان.. روحه، أدواته، آلياته.
نحن أخذنا من التقدم التكنولوجى ما يريح أبداننا.. السيارات، الطائرات، الكمبيوترات، وأغلقنا عقولنا دون المناهج التى أنتجت هذا التطور، فصرنا عالة على الحضارة الإنسانية، نعيش فى فقر ليس ماديًا فقط ولكنه فقر روحى يجعلنا لا نتفاعل ولا نتبادل الخبرات الإنسانية مع الشعوب الأخرى.
كيف لرجال يدّعون معرفة الله أن يشغل بالهم النساء والمال؟.. كيف شهوتهم من صلاتهم وصيامهم وقيام الليل؟، كيف لرجل فى هذا الزمان يعرف الله.. أن يأكل مطمئنًا أن ما يأكله حلال؟، بل ويأكل ما يزيد على حاجته ويفيض فتجده لا يكنز الذهب والفضة فقط بل يكنز دهونًا فى بطنه وعلى كبده، بينما الملايين من المصريين مستحقون للزكاة، مجسدًا مخاوف الشاعر اليونانى سكوكوس كونستندينوس:
إلى واعظ عظيم البطن
عظتك يا سيدى جميلة
رائعة ومؤثرة
خطبتك تمس شغاف القلوب
إلا أن بطنك الكبير المترهل
«يدخلنا فى التجربة»
لماذا رغم امتلاء المساجد، ينتشر الكذب والنفاق والجبن والخوف، وينتفى الإحساس وتضيع قيمة العلم والعمل؟.. ما الذى نقدمه للأرض غير تلويثها وإنجاب المزيد من الذرية تأكل ما يستورد وليس ما نحرث، لسنا خير أمة أخرجت للناس، وليس ما يقدمه لنا رجال الدين هو الإسلام، بل هو رؤيتهم وما يعرفونه عن الإسلام.. وهذه الرؤية لم تنتج سوى الإخوان الخونة، والسلفيين المنافقين، والدواعش القتلة، وعامة لا يتورعون عن قضاء حاجتهم عند أقرب حجر.
لماذا كل هذا الشقاء؟ كل هذا السخط؟ كل هذا الغضب؟ أى جثة نحملها على ظهورنا؟ فلا نكرمها بدفنها ولا نحاول إحياءها، بل نظل ندور وندور وندور.. حتى نسقط جثثًا وتظل قبورنا مفتوحة.