نبت شيطانى ينمو فى بلدنا
النبت الشيطانى هو ذلك النبت الذى نُسجت حوله قصص كثيرة، فقيل إنه نبات يسكنه الشيطان، وليس له أصل، وينبت فى أى مكان دون رعاية.. وفى بلدنا علمت أنه نبات ينمو وسط زراعات القمح والشعير فى منطقة الداخلة.. لكن يبدو أن النبت الشيطانى قد زحف ليشمل جيلًا من الأطفال فى مصر أصبحوا كالزرع الشيطانى بلا جذور وبلا رعاية وبلا توجيه.
المهم أن النبت الشيطانى ذكرنى بأطفال التهريب الذين شغلوا الرأى العام خلال الأيام الماضية، وثارت ضجة كبرى، بها تراشق بالألفاظ بين الناس فى المجتمع، وفى الإعلام فى بعض البرامج. فانقسمت الآراء بين فريقين متناقضين.. فريق متعاطف معهم وفريق رافض لهم.. والحقيقة أننى شاهدت حوار الطفل محفوظ مع مذيعة فى بورسعيد عدوانية اللهجة، نراها من ظهرها فقط، وذلك فى حوار بعد القبض عليه هو وزملائه. ودون الإغراق فى التعاطف الشديد أو القسوة الشديدة فإننى أرى أن هذا الطفل يدق جرس إنذار للمجتمع جميعه، لأننا أمام نوعية من الأطفال تُشبه النبت الشيطانى، وهم كثيرون. فعددهم بالملايين وهم منتشرون فى الشوارع وفى كل مكان، لكننا لا نعرف عددهم تمامًا لنقص الإحصائيات الدقيقة بخصوص الطفولة الضائعة فى بلدنا.. إن هؤلاء الأطفال هم نتاج مجتمع يعانى بدرجة كبيرة من فقدان القيم والتربية الصحيحة والتوجيه السليم.. إنه مجتمع يعانى من إهمال لهؤلاء الأطفال والنشء، وهم كما لاحظت من حوارهم فى طريقهم للضياع التام لأنهم نتاج أسر لا تعلمهم القيم ولا تربيهم على الأخلاق ولا تهتم بالحوار معهم أو بمعرفة تحركاتهم.. إن محفوظ، كما لاحظت من أسلوب كلامه، طفل يعانى من الجهل وفقدان التوجيه وعدم فهم تبعات ما اقترفه على مستقبله.. لقد استقطبه أصدقاء السوء نحو الربح السريع من التهريب دون أن يدرك أن هذا قد يدمر حياته وسمعة أسرته.
ولا أكون مغالية إذا ما قلت إن أهل الطفل مسئولون عنه لأن دورهم هو تربيته وتعليمه وتوجيهه، وأن يعرف الفرق بين الحلال والحرام.. إن مسئولية الأهل الأولى هى متابعة ومعرفة ما يفعله الأبناء ومن يخالطون!، لأن المؤثرات والمغريات كثيرة.
ولا أكون مغالية إذا ما قلت إن الدولة لا بد أن تسهم فى التوعية وفى التعريف بفرص العمل المتاحة فى كل مجال وفى كل محافظة، حتى يمكن للراغبين فى العمل أن يجدوا فرصًا متاحة أمامهم للعمل الشريف.. ولا أكون مغالية إذا ما قلت إن من تبعات ثورة يناير ٢٠١١ أننا قد أصبحنا أمام جيل دون العشرين من عمره تم تلقينه سلوكيات فجة، منها عدم احترام الكبير والبلطجة والفوضى والعنف. إنها الفوضى الموجهة التى كانوا يطلقون عليها الفوضى الخلاقة التى أرادوا بها تدمير الوطن وتدمير شخصية مصر وهويتها.. رأينا أطفالًا يتم استخدامهم فى كل شىء بدءًا من حرق المؤسسات والمكاتب الحكومية وحرق المجمع اللغوى، وصولًا إلى أقسام الشرطة والبيوت والكنائس.. ورأينا أطفالًا يُستخدمون فى اعتصامات الفوضى فى المصانع وفى الشوارع.. إنها السنوات السبع الماضية التى تم فيها استخدام الفوضى باعتبارها أمرًا طبيعيًا.. ولتعم معها الكراهية والحقد والغل بدلًا من القيم المصرية الأصيلة التى نشأنا عليها ونحن صغار.. ومع نشر الفوضى تم تقديم أفلام تقدم العنف والكراهية والبلطجة واستخدام السلاح الأبيض فى الشوارع كأنه أمر طبيعى.. كما يتم بث مسلسلات تدخل البيوت لتقدم أسوأ النماذج على أنهم أبطال، فيُقدم الضابط على أنه عدو المجتمع، ويُقدم المجرم على أنه ضحية المجتمع، مع سيل عارم من أتفه الموضوعات وأسوأ الألفاظ والسلوكيات التى تملأ الفضائيات.
إن هذا الطفل هو مشروع مهرب كبير وحوت من حيتان الفساد إذا لم يتم تقويمه وتعليمه وتوجيهه، وإذا لم يتم معرفة من وراء استخدام الأطفال فى هذه الأفعال الإجرامية. إن هناك شعرة بين الحلال والحرام هذا الطفل لا يعرفها ولا يعيها.. إن كل ما قام به فى نظره هو أنه ترك بلدته سوهاج للذهاب مع أصدقاء السوء وكسب مال وفير بأى طريقة فى بورسعيد، بعيدًا عن أعين أهله.. إنها مشكلة مجتمع ترعرع فيه تيار متخلف ابتلانا بفتاوى باسم الدين كلها تحض على الكراهية وتكفير المجتمع ونشر الغل واستباحة القتل والسرقة والحقد والمال الحرام.. إنه تيار عمد إلى تسميم العقول والقلوب.
إننا أمام نموذج صارخ من أطفال ضائعين تائهين ليس لديهم أهل ليرشدوهم إلى الحلال والحرام ولا إلى الصواب والخطأ.
إن الدولة يجب ألا ترفع يدها عن مسئولياتها تجاه الأطفال الضائعين لأنهم نتاج عقود تم فيها إهمال الكثير من القيم، وتم فيها إهمال الحفاظ على الهوية المصرية وتركت العشوائيات لتنتشر ليس فقط فى الأحياء، ولكن فى السلوكيات أيضًا.. إن الدولة لا بد أن تضع خططًا لتوفير فرص عمل فى محافظات الصعيد حتى لا يهرب أهلها بحثًا عن فرص العمل الحرام خارجها.
إن الدولة الآن مشغولة بجباية الأموال من المواطنين من كل الفئات دون النظر إلى تآكل الطبقة الوسطى، ودون النظر إلى أنها هى التى كان يمكنها المحافظة على الهوية المصرية والقيم المصرية والشخصية المصرية.. إن زرع الانتماء فى الأطفال يبدأ بدولة تهتم بتوفير التعليم بأسعار مناسبة ومدارس بأسعار مناسبة وبالمعلم، ليكون قدوة، وبإعلام يراعى القيم والمثقفين لأنهم طليعة يمكن الاعتماد عليها فى رفع درجة الوعى العام، ونشر الأفكار المستنيرة والقيم المناسبة لبناء مجتمع سليم وسلوكيات سوية.. إن هناك عشوائية متغلغلة فى حياتنا تحاول القضاء على كل محاولات التقدم والتنوير ورفع درجة الوعى العام.. ولا بد أن تكون للدولة خطة لتقديم إنتاج إعلامى هادف وأفلام ومسلسلات هادفة لا تحطم القيم والمبادئ ولا تقضى على الأخلاق والمثل العليا التى يبدو أنها فى طريقها للاندثار، لأنها فنون تدخل البيوت فيقلدها الأطفال والشباب والكبار أيضًا.. وللأسف معظمها يقدم نماذج سيئة أو منحرفة.
إن نظرة إلى مشهد الطفل محفوظ وهو يتحدث مع المذيعة عما فعله، تجعلنى أقول إنه فى حاجة إلى تقويم وتوعية وإصلاح، وليس إلى وضع كلبشات فقط فى يديه لأنها قد تحوله إلى عدو ناقم على المجتمع وحاقد على الجميع، ولحظتها فقط سندرك أننا لم نتحرك لإنقاذه من الضياع فى الوقت المناسب.
إن محفوظ واحد من ملايين غيره لا يجدون التوجيه والرعاية والتربية التى تجعل منهم مواطنين مصريين محترمين.. إن الزرع الصغير إذا ما هذبناه وأعطيناه الرعاية الفائقة سيعطينا ثمارًا يانعة، أما النبت الشيطانى فإننا إذا ما تركناه فإنه سينمو ويتكاثر، وقد يُفسد الأرض كلها لأنه لم يجد من يقوّمه أو يهذبه أو يُوقف من نموه الشيطانى فى الوقت المناسب.