المادة الثانية فى الدستور.. هل تُشوش العمل القضائى؟
المادة الثانية فى الدستور المصرى تنص على «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع». بعيدًا عن سرد أو استعادة الظروف الملتبسة، التى وجدت فيها هذه المادة طريقها إلى دستور ١٩٧١م كإضافة فى العام ١٩٨٠، ومنه تنقلت حثيثًا إلى ما تلاه من دساتير تعاقبت فيما بعد يناير ٢٠١١ وصولًا إلى الدستور الحالى. فقد كانت بهذه الصياغة الموجزة، التى هى فى حقيقتها بها قدر لا يستهان به من الالتباس، تمثل حائطًا يصعب على أى من المشرعين الذين تصدوا لاحقًا لصياغة مواد الدستور، أن يتجاوزوها أو يضيفوا لها بعضًا من الكلمات الشارحة للنطاق الذى يمكنها الامتداد إليه. وهذا بالطبع ينصب بالأخص على الفقرة الثالثة من المادة بأن «مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع».
المؤيدون لوجود تلك المادة بصياغتها الحالية، فى أفضل أحوال تفسيرهم للعلاقة بين «الشريعة الإسلامية» بصيغتها الجامعة، و«النصوص القانونية» التى تضمها قوانين الدولة المختلفة، يرون أن تأتى الأخيرة بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة، لكنها تظل فى النهاية «نصوصًا» ضمن نسق قانونى محكم ومنضبط. لكن لم يأت حتى من أكثرهم تطرفًا فى هذا التأييد، ما يمكن أن يعد اقتحام «الشريعة» لهذا الإحكام والانضباط و«القطع» الواجب توافره، كى يمكن الحكم بما يعد حينها، سبيلًا لإرساء العدالة المرجوة. هذا مع التأكيد البديهى على ما يحمله المؤيدون فى هذا الشأن، ونحمله نحن كغالبية عظمى لكامل التقدير للشريعة الإسلامية بأحكامها ومبادئها.
ما جدد الحديث بهذا الشأن، وهو عادة ما يثار إزاء وقائع وحوادث بعينها، لكنه سرعان ما يتوارى خجلًا أو عجزًا، ويكتفى بمرور ما أثير بشأنه لتعود الأوضاع على ما هى عليه. هذه المرة تصدى المحكمة الإدارية العليا لقضية عودة ضباط الشرطة «الملتحين» للعمل، بعد أن قامت وزارة الداخلية بتوقيع الجزاء المنصوص عليه بقانون الشرطة عليهم، يعد أمرًا منطقيًا ومحمودًا فى كل الأحوال. والحكم الأخير الذى صدر عن المحكمة بهذا الخصوص، ليس هو مربط الفرس على الإطلاق، فالمربط الحقيقى هذه المرة أن كل من طالع حيثيات الحكم الصادرة عن المحكمة، وجد نفسه أمام قضية فقهية جدلية، انتقل صخبها وتناطحت آراؤها إلى سطور تلك الحيثيات، التى انتظر المتابعون أن تكون قانونية خالصة. للحد الذى ذكرت فيه المحكمة نصًا فى تلك الحيثيات: «إنَّه بالنِّسبة لمَدَى شرعيَّة إعفاء اللِّحيَة للرِّجال أم حلقها وفقًا لأحكام الشَّريعة الإسلاميَّة، فإنَّ المحكمة ترى أنَّ المَسألَة تَتعلَّق بدَلالة الأمْر والنَّهْى فى القُرآن والسُّنَّة، والتى انتهى علم أُصول الفقه إلى كونها ليست كلها للوُجوب بل منها ما يكون على سبيل النَّدْب، خاصَّة أنَّ القُرآن الكريم لم يتضمَّن نصًا صريحًا قاطعًا فى شأنها وإنما أوردتها السُّنَّة النَّبويَّة الشَّريفة، فيضحى السؤال فى مَسألَة إعفاء اللِّحيَة هل هى للوُجوب أم للنَّدب؟».
وكى تزيد المحكمة الأمر تعقيدًا والتباسًا، فإنها تذهب فى الحيثيات التى أوردتها لأبعد من ذلك، فى الفقرة التى جاءت نصًا: «وبالتالى ففى حال اختلاف العلماء على حُكم شرعىٍّ مُعيَّن، يجب على كل مُسلمٍ أنْ يختار فيه برويَّة مِن الاجتهادات الشَّرعيَّة للعلماء وأسانيدها ما يطمئن إليه قلبه وثوابته، وفق ما يُناسب فطرته وثقافته وأحواله الاقتصاديَّة والاجتماعية والوظيفيَّة، دون أنْ يَضرَّ بصالح البِلاد أو العِباد أو حُرِّيَّاتهم. وبالمِثْل يحق للمُشرِّع فى المُقابِل أيضًا حال اختلاف العلماء على حُكم شرعىٍّ مُعيَّن، أنْ يَضَعَ مِن النُّصوص القانونيَّة التى تتفق مع أرجح تِلك الآراء، بُغيَة تنظيم السُّلوك والمَظهر الخارجى والمَلبَس لفِئات محدَّدة مِن العامِلين المُنتسبين لمَرافِق إداريَّة مُعيَّنة بما يحقِّق الصًّالح العام للبلاد وللمِرفق معًا، طالما لا تخالِف صراحة أو ضِمْنًا أيًا مِن أركان الإسلام أو ثوابت أحكامه المُتَّفق عليها، وفى ظلِّ اعتِبار مبادئ الشَّريعة الإسلاميَّة مَصدرًا رئيسيًا للتَّشريع، على أنَّ يخضع ذلك كله للرِّقابة القضائيَّة».
هذه الفقرة السابقة هى المربط الحقيقى للفرس الحائر، فقد انحازت المحكمة صراحة لوجوب وجود نصوص قانونية قاطعة، وهذا يقينًا ما نحتاج إليه أمام مثل تلك الاختلافات الفقهية التى لم يستسغ أحد إقحامها فى هذا المعترك. وختام الفقرة الذى يستوجب خضوع «ذلك كله» للرقابة القضائية، هو غاية المنال من أن يكون القضاء رقيبًا وحاكمًا لكل نزاعاتنا ومواقفنا القانونية. لكن ما جاء قبل وبعد تلك الكلمات والفقرات، يضرب ذلك فى الصميم، ويصف ما قام به الضباط باعتباره انحيازًا لرأى «فقهى» مختلف عليه، وليس سلوكًا معيبًا به كل أشكال «النفاق» الشكلى، وانتهازية الإتيان به فجأة وقت حكم الإخوان، رغم كون «جميع» من قام بهذا الفعل له سنوات طويلة، من العمل بجهاز الشرطة ولم تثر تلك القضية ولم تمثل له رغبة سابقة بأى صورة من الصور!.
هذا يفترض أن تكون المحكمة على علم به، ويعد منطقيًا من أسباب البحث فى أساس تلك القضية المثارة، بجانب إلمامها المتوقع أن «إعلان اللحية» هو انحياز سياسى ترتب عليه انخراط البعض منهم- وهم كانوا يعملون كمجموعة واحدة- فى صفوف بعض من الخلايا الإرهابية، وقضية الاشتباه فى هذا الاتهام خاضعة للتحقيق أمام دوائر قضائية. لذلك فما ظنه الجميع لا يخفى على أعضاء المحكمة الإدارية العليا، لم نجد له أى صدى فعلى فى السطور التى حملت القضية، بما يشوبها من «اختزال» لزاوية الرؤية الكلية، إلى مربع فقهى جدلى فى جزء منه اعتبر المسلك انحيازًا دينيًا، وفى جزء آخر أعطى لوزارة الداخلية الحق فى سن قوانينها الداخلية، التى تضمن حفاظها على طابعها النظامى. إذن أين المشكلة، ولماذا لا يشعر أحد بارتياح إزاء ما جاء بتلك الحيثيات؟، أو بمعنى آخر لماذا أصاب الغالبية العظمى هذا القدر من التشوش جراء ذلك؟، هذا ما سنحاول طرحه فى الأسبوع المقبل بمشيئة الله.