الإيجاز الأدبى والمرأة التى قتلتها الإطالة
فى أكتوبر العام الماضى قتلَ عامل رخام يُدعى «إبراهيم» زوجته الشابة «غادة» فى بيتهما فى منطقة المطرية، وبرر ذلك، أثناء التحقيق، بقوله إنه كان يحبها، بل وأنجب منها طفلين، لكنها كانت «رغاية» كثيرة الكلام!، وهى المرة الأولى- على متابعتى أخبار الحوادث- التى صادفنى فيها أن الثرثرة فى الحياة قد تقود إنسانًا إلى حتفه!، وقد فسر القاتل فى التحقيق ذلك بقوله إنه: «ضاق بكلام زوجته ذات ليلة فاستل سكينًا وطعنها حتى الموت»!، إلا أن تلك الثرثرة القاتلة تكاد أن تكون السمة العامة لعدد كبير من الكتابات الصحفية التى تتمادى فى الإطالة والحشو إلى أن تمسى نوعًا من الدردشة الحرة.
تقرأ موضوعًا كبيرًا منفوشًا مثل أكياس غزل البنات، ولا تجد فيه شيئًا، وقد ضرب سلامة موسى مثلًا على ذلك قائلًا إن البعض يكتب فى صحافتنا: «تقابل الأستاذ لطفى السيد مع على الشمسى باشا فبدلًا من أن يبدأ التحية على باشا بدأها الأستاذ لطفى السيد»!.
بل إن الثرثرة قد تقود صاحبها إلى حتفه أحيانًا، كما حدث، أما فى مجال الأدب فإن الإسهاب والإطالة يفتكان بكل شىء، ولهذا كان الكاتب الروسى العظيم أنطون تشيخوف يردد: «الإيجاز أخو العبقرية». أما الكاتب الشهير أوسكار وايلد، فقال ذات مرة إنه قضى طيلة النهار- بالأمس- ليضع فاصلة فى قصة، وطيلة الليل ليحذفها!، إلى هذه الدرجة يصبح لكل كلمة وحرف وعلامة وظيفة محددة، إما أن تضيف شيئًا جديدًا إلى العمل أو تحذف. لهذا يقول فرنك أوكونور، صاحب كتاب «الصوت المنفرد»: «لقد أعدت كتابة معظم قصصى أكثر من عشر مرات، وأعدت كتابة قليل منها خمسين مرة، وذلك بهدف تخليص العمل من أى زوائد أو إسهاب».
أما جوستاف فلوبير، صاحب «مدام بوفارى»، فكانت كتابة صفحة واحدة تستغرق منه أحيانًا عدة أسابيع!، أما أرنست همنجواى صاحب الجمل التلغرافية، فكانت لديه عادة غريبة هى أن يكتب وهو واقف بقلم رصاص على ورقة فوق لوح خشبى، ومن هنا جاءت عبارته: «على الكُتّاب أن يكتبوا وهم واقفون، حينها سيتقنون كتابة الجمل القصيرة»!.
وقد قال تشيخوف، ذات مرة إنه: «إذا ظهرت بندقية على جدار صالة بيت فى الفصل الأول من مسرحية، فيجب أن تنطلق فى الفصل الثالث»!، وكان يعنى بذلك أنه لا بد من وظيفة حتى لأدق التفاصيل فى الديكور، والحوار، والبناء الدرامى، وأنه لا يمكن الزج بعبارة أو جملة من باب الثرثرة أو الحشو، لكل شىء وظيفته، أو احذفه. وفى نصائح الكاتب الكبير جابريل جارثيا ماركيز للشباب يقول لهم: «لا يصح أن نجبر القارئ على قراءة عبارة واحدة مرتين»، وفى كتابه الجميل «أنشودة البساطة» يقول يحيى حقى إنه: «لا عشق للقصة والشعر إلا بعشق أهم هو عشق اللغة»، واللغة هى المادة الأساسية للكاتب الصحفى، ومن باب أولى للأديب، فهى مادة الكتابة، كاللون للرسام، والحجر للنحات، ولا تقبل اللغة الحشو والإطناب والدوران حول المعنى.
لهذا أشار يحيى حقى إلى أنه يكتب الجملة الواحدة ثلاثين وأربعين مرة! ويفتخر بأن كتابه «صح النوم» يضم صفحات كاملة «يتكرر فيها لفظ واحد»!.
وقد تعلمتُ الإيجاز فى الكتابة الصحفية من الأستاذ الكبير الراحل محمد عودة، الذى كنت أطالع مقالاته فى جريدة الجمهورية، فأجدها تمتاز عن غيرها بأن كل جملة فيها إضافة جديدة إلى ما سبق، فكرًا، أو شعورًا، أو معلومات، أما الإيجاز فى الأدب فحاولت أن أتشربه من الروسى العبقرى أنطون تشيخوف، وأرنست همنجواى، وما زال البعض يتصور أن الكتابة عمل سهل، وهو كما يقولون عمل سهل على الجميع صعب على الكاتب، حتى إن مارك توين عندما نشر كتابه «ما الإنسان؟»، عام ١٩٠٦، قال: «بدأت الإعداد لكتابة هذه الأوراق منذ خمس وعشرين أو سبع وعشرين سنة، وكتبتها منذ سبع سنوات، وراجعتها منذ ذلك الحين مرة أو مرتين كل عام».
ورغم مشقة الكتابة بإيجاز يظل الكاتب، صحفيًا أو أديبًا، يستقى متعة وجوده من العمل الإبداعى، ويظل يردد خلال ذلك مع أوسكار وايلد: «فى الحياة نعمتان.. حب الفن.. وفن الحب»، وأملى ألا أكون بهذا قد أضفت إلى مقالات الإطالة والإسهاب مقالًا آخر لأنها ليست بحاجة إلى المزيد!