من أين يبدأ الإصلاح؟
- الدراسة التى أجريت على نوعية التعليم فى دول العالم الثالث وتحديدًا فى دول الشرق الأوسط، تقول: خمسة وستون مليونًا أميون وارتفاع نسبة الرسوب إلى نسب عالية
سؤال يردده المواطن البسيط والدارس والمسئول، والقول الحق يقول: «من يظن أنه قائم فلينظر كى لا يسقط» والحكمة تقول: لكى نكتشف الذات قبل السقوط لا بد من الاعتراف بحاجتنا إلى العلاج، وعكس ذلك هو المكابرة والتغنى بالماضى وشعر الشعراء، أو محاولة التقليل من حجم الكارثة، فى الوقت الذى لا نملك فيه خبزنا اليومى ونستورد الإبرة والصاروخ، وفى الوقت الذى نفتخر بالشعر الجاهلى والحديث والعالم يدرس جديًا وينفق المليارات للوصول إلى سكنى الشعوب على سطح القمر، وغالبًا سنجد من بيننا من يفكر وماذا بعد غزو القمر، كيف نقاتل ساكنيه ونحوز أرضهم، وسوف نزيد من إنتاجنا من البنين بالقدر الذى يمكننا من حيازة الأرض الجديدة، ناسين أن العالم قد تغير والتاريخ لا يكرر ذاته وإلا ما تقدمت الشعوب، حتى ما تغنينا به مجدًا تليدًا صار اليوم لغة البليد، كما قال معلمو الزمن البغيض، فكلمة «بليد» لا يسمح لمعلم فى الغرب أن يرددها، ولو حدث فمصير المعلم أو المعلمة الركون إلى البيت غير سعيد.
والحكمة والواقع يقولان إن بداية علاج المريض هى تشخيص المرض، حتى إذا عرف السبب زال العجب، فالطبيب لم يعد كما بالماضى البعيد حين لم تكن الوسائل المحددة للمرض مكتشفة أو يمكن الحصول عليها، فكانت سماعة الطبيب هى كل شىء حتى تغنينا بها، حيث لم تكن أجهزة الأشعة بأنواعها والمناظير الطبية والجراحات المتقدمة والأجهزة المعاونة، مما رفع من أعمار الشعوب المتقدمة، ليس فقط بطول السنين بل بنوعية الحياة والاستمتاع بها.
أما إذا عرجنا على أحوال الإنسان فى شرقنا الأوسطى، فتقول الدراسة إن لدينا سبعين مليون أمى فى العالم العربى، وعشرة ملايين طفل خارج دائرة التعليم وأكثر من نصف النساء لا يجيد القراءة أو الكتابة. والمفكرون يقولون لا نهضة لشعوب أغلبها أمى أو متعلم عن طريق الحفظ والتكرار، وهنا أذكر الطفل فى بداية المرحلة عندما رجع يكرر الدرس فى كتاب القراءة، وكان يردد كلمة «اقلب الصفحة» كما تعلم من معلمته، كما أنه لا فائدة من تعليم يعامل الدارس كلص والمعلم كرجل شرطة، الأول يحاول خطف المعلومة من زميل أو من وريقة أطلقوا عليها تعبير «البرشام» أى الدواء الناجز والمنقذ، وفى ذات الموقع يوجد رجل شرطى أو أكثر يراقب حتى ينقض على اللص ويضبطه متلبسًا بالجريمة التى قد تكون السبب الرئيسى فى فشل الدارس والهروب من العبء الثقيل، ناهيك عن استخدام الألفاظ المهينة والعصا الغليظة. فى حين نرى الدول المتقدمة تعامل الطفل كملك متوج ترحب به فى بداية اليوم وتعامله أفضل معاملة حتى لا يمل الطفل من المدرسة. وبالأمس القريب شاهدت منظرًا ممتعًا بمهرجان اليوم الأخير من العام الدراسى، إنه مهرجان للأطفال وهم لا يريدون العجالة فى الذهاب لبيوتهم، فهم فى حفل نرى فيه الألعاب والورد ووداع المعلمات لأطفالهم، وشكر الوالدين بالورد، وكأنه مهرجان ولغة الأطفال فيه وكأنما يقولون إنهم لا يريدون العودة سريعًا إلى المنازل. وهنا تذكرت الفارق، وتمنيت ولو القليل من هذا العشق للفصول والمعلمات والمعلمين.
وقد يتبادر للذهن كيف نقارن بين شعوب وصلت القمر وأخرى تعانى فى إنتاج «إبرة الخيط». فالهند مع بداية تحريرها، أى عهد نهرو، وماليزيا على عهد مهاتير، وباقى دول النمور الآسيوية، ومن كوريا الجنوبية وحتى سنغافورة ثم تأتى الدول الحديثة تاريخيًا كالولايات المتحدة، فلم تبدأ نهضة هذه الدول إلا من خلال بوابة التعليم الجيد.
وبنظرة سريعة لكل عين مبصرة وذات بصيرة ملهمة وعقول نيّرة مع حسن استخدام هذه الوسائل الخلقية، ندرك ما آل إليه التعليم فى دول العالم الثالث، ويُدرَك الفارق الكبير ليس بقياس اليوم، بل عندما كان خريجو جامعاتنا المصرية التى أنجبت علماء وأطباء أبهروا الغرب والشرق على السواء. وأذكر أن خريج كليات الطب فى ذلك الزمان كان يقبل طبيبًا فى الغرب بكل ترحاب، ثم بأداء امتحان فى منتهى البساطة ليس فى مواد الدراسة، بل بالتركيز على القوانين فى تلك البلاد وكيفية معاملة الطبيب للمريض الذى له كل الاحترام وكلمته هى المجابة حتى لو رفض العلاج.
أما اليوم فطبيبنا، مهما بلغ علمه وخبرته، فعليه أن يمر بامتحانات تحتاج إلى سنوات ربما أطول من سنوات الدراسة التى قضيت فى جامعاتنا، هذا بالإضافة إلى سنوات التدريب بعد النجاح، ولمدة ثلاثة أعوام كاملة لا يستطيع الطبيب كتابة دواء لمريض وإنما يناقش مع مدربه، وهو الذى يكتب العلاج وتحت مسئوليته، والخلاصة أن طبيبنا المصرى بعد أن قضى أعوامًا، وحصل على شهادات أعلى لكنه يحتاج إلى قرابة العشر سنوات ليكتب علاجًا لمريضه.
وقد يرى البعض أن التعليم الجيد يحتاج إلى أموال أكثر، وفصول دراسية أكثر، فماذا يعمل المعلم لستين طفلًا فى نصف ساعة ويتقاضى أجرًا قليلًا لا يكفى معيشته وهو منهك القوى فى دروس خاصة لعدد كبير من تلاميذه، حتى إنه فى الفصل يكاد لا يعمل، لأن كل تلاميذه معه خارج الفصول، أما الدرس والامتحان فهو مبنى على الحفظ أكثر من الفهم.
والدراسة التى أجريت على نوعية التعليم فى دول العالم الثالث، وتحديدًا فى دول الشرق الأوسط، تقول: خمسة وستون مليونًا أميون، وارتفاع نسبة الرسوب إلى نسب عالية وإعادة الدراسة لذات السنوات مع تدنى التحصيل المعرفى وضعف القدرات التحليلية والابتكار.
وحتى لا تكون النظرة كلها ظلامية، فقد كان لنا تاريخ يحتذى حين كانت العائلات الغنية توقف أراضيها لهدف الإنفاق على التعليم لغير القادرين، ثم تغيرت الأحوال وزادت الأهوال، وذهبت الأراضى التى كانت وقفًا للتعليم، فاغتنت الوزارات وافتقر الفقراء ومن كانوا أغنياء على حد سواء.
أما المبرر من هذا المقال وهذا الموضوع تحديدًا، فهو ليس لاستعادة التاريخ، بل لاستعادة الرؤية حتى يمكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وليس ذلك من المستحيلات إذا خلصت النوايا وأصلحت المناهج وعادت الأراضى الموقوفة للتعليم، لتنفق على التعليم دون تحليل أو تأويل، فلا مستقبل لأمة دون تعليم سليم.