هزيمة التردد مصدر القوة
مقولة رجل اختبر الحياة بكل معانيها من سلطة شبه مطلقة إلى عالم اللا شىء حتى خرج بحكمة للأجيال تقول «تعلمت أن أكون سعيدا بما أنا فيه» فى سلطة شبه مطلقة إلى لا شىء فى وسع العيش الذى يحسد عليه وفى احتياج أقرب إلى الجوع واللا مقر (أى التشرد).
عشت السلطة بكل مقاييسها، مارست العنف بكلمة منى أو أمر منى واجب التنفيذ، كنت سعيدا فى بؤس الآخرين، فرحًا فى آلامهم متشددًا فى معاملة المختلفين، مارست عقوبة الرجم بالأحجار وإن كان ليس مباشرة بيدى بل كنت حارسًا لثيابهم التى جردها جنودى من المحكوم عليهم بالرجم، صحيح أن هذه العقوبة لا تُمارس إلا فى القليل من البلدان، والبلد الذى يطبق هذه العقوبة يجعلها واجبة على النساء المرتكبات جريمة الزنا رغم أنها لا تطبق على الشريك الزانى، حيث يكتفى بجلده بعض الجلدات وكأنها- المرأة- هى الفاعل الرئيسى فى هذه الجريمة المستوجبة لها العقوبة والتى قد تكون الأنثى فيها مجبرة أو مهددة، ولكن تبقى عقوبة الرجم واجبة النفاذ على الأنثى وحدها.
حول موضوع متقارب لمقالنا هذا ذكر أحد الكتاب العرب «فادى أحمد حيدر» فى مقالة بعنوان «نكبة العقل وهزيمة الإرادة»، والمقال يركز على ضرورة الفصل بين الدولة والسلطة، حيث الدولة نصاب كيانى متعال تمثل مصالح وإرادة كل الشعب، وأما السلطة فهى الحكومة والتى هى مجال التنافس والصراع والاختلاف، وهذا هو الفارق بين الدولة والسلطة.
ومن نقاط القوة فى منطقتنا الشرق أوسطية وحدتنا الجغرافية والتاريخية، وحدةٌ لا تفرقة، وقوةٌ لا ضعف، وإن كانت هناك بعض الأنظمة التى لا تستوعب هذا الامتياز الذى تفتقر إليه شعوب كثيرة فى تعدد لغاتها وسوابق تاريخها، ومع الأسف والحسرة فقد بقيت العديد من بلدان منطقتنا تكتفى بالتغنى بالماضى كميراث حضارى وثقافى فنى شمل أناشيد وأغانى تحكى تاريخنا وماضينا التليد ناسين أن التعددية- وما تتضمنه من اختلاف- ميزة كبرى، أما الخلاف فنكبة كبرى لأن الخلاف غير الاختلاف الذى يثرى ويجمع ولا يفرق، هو قوةٌ لا ضعف، وثروةٌ إذا أحسنا تبادلها دون صراع مدمر وكراهية خفية، عكس قبلات وعناق القيادات عند اللقاء، وفى ذات الوقت تمسك أيادينا أو بَعضُنَا بخناجر سامة عكس ما تنادى به الحناجر، وشتان الفارق بين الحناجر والخناجر مع تقارب الكلمتين، فالفارق فى نقطة بين حرفين قريبين، بل متشابهين، إلا من آثارهما.
إن الاختلاف أو التعدد قوة، والخلاف ضعف، والاختلاف أى التعدد ثروة إذا أحسنا تبادلها مع تجنب الصراعات وتلافى الأزمات وحسن تبادل المصالح والقدرات والانفتاح بين بَعضنَا البعض كما نحاول ممارسته مع دول الغرب تقربا وتشبها، بل تعلما حتى نعرف أكثر.
إن الانغلاق على الذات والاكتفاء بالتغنى بماضى أجدادنا وحضارتهم وسبق تلقيهم الرسالة الدينية- كل هذا جميل، لكن لا فضل لنا فيه، فقد توارثناها وعلمناها كما هى وربما لم نضف إلى ما تعلمناه، وكان الواجب ألا نكتفى به، فقد تغير العالم فى غالبية علومه حتى أصبحنا نلهث جريا وراء الحديث عن العلوم التى لا مناص من تعلمها بواسطة معلمين قد لا ينطقون لغتنا ولهجاتنا إلا أنهم سبقونا فى التعلم من ماضينا ومنجزات أسلافنا، وهذا كله لن يتحقق إلا بالتعلم الراسخ.
أما أن نصنف نوعية البشر بالدول التى ولدوا وعاشوا فيها ونوعية التعليم وأساليب التعلم فكل هذه التصنيفات مرجعها إلى الإنسان، فهو الأبيض والأسود، وهو الطفل والشاب، والرجل والمرأة، والمؤمن بعقيدة وديانة أو لا دينى، وفى النهاية هو الإنسان الطفل الوليد والصبى المتلقى للتعليم والوارث للغة والعقيدة والقابل للمعرفة وفق ما يقدم له فى بيئته وثقافتها وعاداتها وتقاليدها.. أما الفارق الذى ميز بين شعوب وأخرى فهو مساحة الانفتاح على العالم الخارجى ومساحة التواصل مع الثقافات الأخرى حتى قيل إن العالم كله فى مجالات الانفتاح والتواصل المعلوماتى هو بمثابة القرية الصغيرة. وقد عشنا كمصريين عصرا انغلاقيا فى برامج الإعلام عندما كان التليفزيون من نوع الأبيض وأسود ولا يقدم إلا ما يسمح به الحاكم، حتى كان الاستماع إلى الأخبار خارج محيط الدولة جريمة يعاقب عليها المستمع.
وكانت المحصلة هى إنتاج طفل لا يملك حرية التفكير وطالب تربى فى لغة «اكتب ما يملى عليك» ليس فقط من حيث تعلم القراءة والكتابة، ولكن شمل قيدا على حرية التفكير، وبالتالى ضعف الإبداع والاتجاه إلى التقليد والاستهلاك دون إبداع أو اختراع، نستورد الإبرة كما نستورد الصاروخ، وعليه تتزايد حاجة المجتمع إلى أوراق عملة بلاد العم سام، فأوراق النقد تتراجع قيمتها حتى كادت لا تساوى تكلفة طباعتها، وتختفى العملات الصغيرة لأن قيمتها أقل من كلفة سكّها.. رأيناها فى دول الجوار حيث تغيرت قيمة العملة بإضافة أصفار أمام الأرقام، فلم تعد «الليرة» مثلًا ليرة، بل أضيف للرقم صفر ثم أصفار، وهكذا فى طفولتنا كنّا نعرف قيمة المليم الأحمر وعلى وجه منه صورة الملك وكانت له قيمة شرائية، واختفى إلى لا رجعة، ثم تلاه باقى العملات التى لا يراها أطفال اليوم كالخمسة مليمات والقرش، وها هو الجنيه يتوارى كما الليرة فى بلدان أخرى، بينما الأمريكى لا يزال يقيّم «السنت» الذى يوازى «القرش»، وله قيمته فى التعامل المالى ويرده البائع إلى المشترى تقديرا لقيمته مهما قلت القيمة فى سوق الحياة اليومية.
وعودة إلى عنوان هذا المقال وهو هزيمة التردد كمصدر أساسى لقوة الشعوب بداية من الطفولة، فالطفل الخائف من العقاب يكذب ثم يتردد فى التجاوب والتجارب، عاجز عن التفكير لأنه لا يملك حريته، وبالتالى تربى صبيًا صاغرًا، وشابًا لا يملك قرارًا، وعاملًا يردد ما يسمع ويقلد ما ينتج، ويتسابق فى إرضاء من يرأسه، والشعار السائد «أطع رئيسك ولو على خطأ». كما ترددت عبارات متشابهة مثل «تعمل كثيرا تخطئ كثيرا فتعاقب أو قد تفقد عملك»، إذن فالبديل «لا تعمل فلا تخطئ فتكافأ وتترقى»... أما وقد تغير العالم ولم تعد لغة الانغلاق وكتم الأفواه مقبولة مهما بلغت أنظمة الحكم من شدة مقيدة، فالأسوار العالية تتهاوى ووسائل التواصل تتقارب وكذا لغة الحوار وتبادل الفكر- فمن الصعب مقاومتها، ولا مكان للتردد الذى لو تمت هزيمته لامتلكنا المصدر الرئيسى للقوة فى كل المجالات، أما المترددون فلا قوة لهم، وبالتالى لا مكانة لهم فى عالم السرعة وسباق الاختراع وقوة السلاح وتسارع الزمن.