عن الذى يجرى فى الهلال النفطى الليبى
فى الوقت الذى كان الجيش الليبى يحقق انتصارات فارقة، فى مهمة استعادة مدينة «درنة» من أيدى ميليشيات «الإرهاب المسلح»، بعد سنوات ظلت خلالها تلك المدينة الاستراتيجية تمثل شوكة فى خاصرة الشرق الليبى بأكمله- داهمت قوة مسلحة «هجينة» على نحو مفاجئ، ربما على غير توقعات مسار الأحداث، منطقة «الهلال النفطى» فى الوسط الليبى، لتعيد منطق الاستيلاء غير الشرعى على منطقة هى الأهم لثروة الدولة والشعب الليبى.
بشكل موجز تعد أهمية «الهلال النفطى» الليبى، أنه يحقق ما يزيد على نسبة ٩٠٪ من مصدر الدخل العام لليبيا، فضلًا عن أنه يضم أكبر شبكة بنية تحتية تُدير الثروة النفطية الليبية، من خلال مصانع ومصافى إنتاج النفط والغاز وبالقرب منها الموانئ الرئيسية لتصدير النفط على ساحل المتوسط، لذلك يُطلق مصطلح «الهلال النفطى»، على المنطقة التى تمتد من أجدابيا شرقًا إلى السدرة غربًا، وتضم بداخلها الزويتينية والبريقة ورأس لانوف والهروج، هذه المنشآت وصلت فى السنوات الأخيرة لحكم الرئيس «معمر القذافى»، للقدرة على إنتاج (١.٦ مليون برميل) يوميًا، لكنها تقلصت بعد ثورة فبراير والتدمير الذى وقع فى العديد من قدراتها، لتصل بالكاد إلى نحو (٦٥٠ ألف برميل)، قبل أن يوفر الجيش الليبى لها الحماية منذ ٢٠١٦، لتعاود عملية الإصلاحات وتصل بالإنتاج بداية العام الحالى إلى (مليون برميل) يوميًا.
شهدت تلك المنطقة العديد من محاولات الاستحواذ عليها، حيث يعد الهجوم الأخير طبعة منقحة من هجمات سيطر البعض منها على الهلال، قبل أن يتمكن الجيش الليبى بقيادة المشير خليفة حفتر، منذ نحو عامين من تطهيرها من جميع الميليشيات المسلحة، ومن كيان يُسمى «حرس المنشآت النفطية»، ظل يضع يده على مفاصل المنطقة، بدعم مستتر من بعض الأطراف فى العاصمة طرابلس، ليظل قابضًا على مفاصل الثروة من جهة ومن جهة أخرى يمنع وقوعها فى يد الجيش الليبى، حتى لا يعد هذا ورقة قوة أو أداة ضغط فى الصراع الدائر بين أطراف عدة على مستقبل التسوية والدخول فى العملية السياسية.
جدير بالذكر فى هذا السياق أن الجيش الليبى عندما هزم تلك الميليشيات ووفر للمنشآت النفطية التأمين اللازم، لضمان سير عملها على النحو الذى يمكنها من توفير قدر من الدخل- لم يستأثر به رغم قدرته على ذلك، وأعلن من اليوم الأول أن هذا يمثل الدخل العام للشعب الليبى، وقام بتوجيهه إلى المؤسسة الليبية للنفط فى طرابلس رغم عمق الخلاف السياسى مع حكومة الوفاق، لكنه آثر أن يتصرف بما يعكس حقيقته كونه «الجيش الوطنى» الشريف والحارس لمقدرات الدولة والشعب الليبى.
ملامح خطورة الهجوم الأخير، أنه جاء هذه المرة بتنفيذ «إبراهيم الجضران» باعتباره الأقدر على فهم تفاصيل تلك المنطقة، حيث ظل لثلاث سنوات يقود الكيان المسمى «حرس المنشآت النفطية»، لتتوافر لعناصر تلك الميليشيا خبرة تمكّنها من التصدى لأى قوة مسلحة أخرى، تنازعها عملية السيطرة المسلحة على المصافى والموانئ بشكل رئيسى، ولسابقة هزيمة هذا الكيان وسحقه من قِبل قوات الجيش الليبى قبل طرده منها، اعتبر «الجضران» أن نقطة ضعفه هذه المرة ستتمثل فى محدودية العناصر والإمكانيات بالمقارنة مع الجيش الليبى، هذا ما دفعه للتحالف والاستعانة بعناصر ميليشيا «سرايا الدفاع عن بنغازى»، وهى فلول لتنظيم إرهابى تابع للقاعدة يرأسه القيادى «أبوطلحة الحسناوى»، ظل متواجدًا فى بنغازى وتنقل ما بينها وبين الفرع القاعدى فى سوريا، قبل هزيمة تنظيمه وطرده خارج بنغازى فى «عملية الكرامة» ٢٠١٦.
الملمح الثانى للخطورة وتعقيد المشهد، أن معظم المصادر الليبية التى تابعت هذا الهجوم منذ لحظته الأولى، ذكرت أن «التحالف» لم يقتصر على هذين الكيانين فقط، بل امتد ليشمل بعضًا من عناصر قوات «الدروع» الإخوانية القادمة من طرابلس، مع الاستعانة بفصيل نشط ومدرب من المعارضة التشادية، التى تسكن صحراء الجنوب الليبى.
وقد رصد شهود العيان بالمناطق التى انطلق منها الهجوم، وجود عدد ضخم من الآليات العسكرية الحديثة والتسليح المتطور المتوافر لدى الميليشيات، مما دفع إلى فتح باب التساؤل عن تورط مباشر لاستخبارات دولة معادية، تملك إمكانية القيام بتلك العملية المعقدة من التنسيق بين عدة كيانات لم تكن تعمل سابقًا على هذا النحو بداخل ليبيا.
الجيش الليبى يمتلك معطيات استخباراتية؛ تفيد بسفر «إبراهيم الجضران» مؤخرًا من مطار «مصراتة» إلى إسطنبول، ومنها إلى الدوحة، برفقة اثنين من العناصر الإخوانية، وقيادى من «الجماعة الليبية المقاتلة» التى يتزعمها «عبدالحكيم بلحاج» المقيم بالدوحة، ويتنقل حاملًا جنسية وجواز سفر قطريًا.
هذا الاجتماع وضع الخطوط العريضة لعملية الهجوم على «الهلال النفطى»، وأبلغ فيه «الجضران» أن هناك من سيضمن له تعاون «تيمان أرديمى» قائد الميليشيا التشادية المتمردة، هذه الأخيرة معلوم للجميع سابق تعاونها مع ميليشيات ليبية متنوعة ومتعددة الولاءات، وهى إن كانت تتواجد على الأراضى الليبية تحت زعم التمرد على نظام الحكم التشادى، إلا أنها فى حقيقتها هى «بندقية للإيجار»، فطالما توافر التمويل اللازم، تحرك قوتها الضاربة فى اتجاه الهدف المخطط لاستهدافه. أشهر العمليات التى شاركت فيها على هذا النسق كان الهجوم الدامى فى مايو ٢٠١٧، على قاعدة «براك الشاطئ» الجوية فى الجنوب الليبى بالمشاركة مع ميليشيا «سرايا الدفاع عن بنغازى»، ردًا على تحرير مدينة بنغازى على يد قوات الجيش الليبى من السرايا والإخوان وتنظيم داعش.
الملمح الأخير لهذا الخطر الجديد أن العمل الاستخباراتى الذى يقف وراء الهجوم والأموال التى تم ضخها للميليشيا التشادية عبر توفير (٨٠ سيارة) مدججة بالسلاح شاركت بها فى الهجوم، وتتمركز بهم الآن فى ميناءى السدرة ورأس لانوف- لم يقتصر على هؤلاء بل وصل أيضًا إلى أيدى العديد من الميليشيات المكلفة بالتعطيل الكامل للمرفق الليبى، وهو قد تأثر فعليًا بانخفاض حاد فى قدراته التصديرية خلال أيام قليلة، وصلت به إلى رقم (٤٥٠ ألف برميل) يوميًا مما يقل عن نصف قدرته.
وربما ما بدأ يتحدث به السياسيون الليبيون أن الأمر يبدو حتى أبعد من مجرد تدمير الثروة، إلى تدمير العملية السياسية برمتها التى توصلت إليها أو دفعت إليها الأطراف الليبية مؤخرًا فى باريس، والتى كانت تنذر ببدء عملية سياسية تقود إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة بنهاية هذا العام، هذه محطة تسحب البساط قسرًا من تحت أقدام الإخوان وداعميهم الخارجيين، فى ظل نجاحات متوالية يحققها الجيش الليبى وتشغله فى أقصى الشرق، لذلك ينظر الليبيون إلى الهجوم الأخير باعتباره دفعًا بالوضع إلى «الصوملة»، التى تم تحذيرهم منها مؤخرًا فى باريس من الأطراف الدولية ومن ممثلى دول الجوار الحاضرين، باعتبار أن نقض كل الاتفاقيات السياسية التى تضمن على الأقل الحد الأدنى للعملية السياسية، هو ذهاب إلى الجحيم المفتوح على الصراع المسلح الذى لا نهاية له.. وهذا ربما ما دفع الأطراف المشاركة هناك إلى تقديم تنازلات ظهرت للمرة الأولى، لكن هناك من يضيره بشدة الوصول لمثل تلك الحلول التوافقية، ولذلك جاء الدفع سريعًا تجاه هذا الجحيم المستعر والمعقد بكونه يستهدف- فضلًا عن الاختلال الأمنى الحاد بظهور القوة المسلحة غير الشرعية- القبض على مقاليد الثروة والدخل العام للدولة الليبية.