الريف المصرى ومسخ العقل
عندما تسافر إلى إحدى الدول الأوروبية يلفت انتباهك بالنسبة للأشياء: النظافة الشديدة والتناسق.. ويلفت انتباهك بالنسبة للناس: الانضباط، وأن كل إنسان يسير فى حاله، فلا أحد يتطلع إليك، ولا أحد يلاحظك أصلًا، كل شخص مشغول بنفسه ويسير فى طريقه بهمة.. تغلب على البلدان الأوروبية روح الجمال والتناسق، فتنتشر أحواض الزهور الملونة فى النوافذ والشرفات حتى إنه يخيل إليك أنك فى كتاب للحواديت والحكايات المصورة للأطفال، وليس فى عالم حقيقى من فرط الجمال والسكون.
ولا يقتصر هذا الجمال والتنسيق على العاصمة، بل يمتد إلى الريف الذى يتمتع بطبيعة خلابة ساحرة، وتنتشر الغابات والبحيرات والمراعى فى كل مكان، مما يجعلنا نشعر بفقر الطبيعة القالحة فى منطقتنا، حيث الصحراء والقحط والغبار والعواصف الترابية.
تتمتع بيوت الفلاحين فى هولندا بنظافة ونظام شديدين، رغم صغر مساحتها، ومعظم البيوت مبنية من الخشب ومحاطة بسياج يحفظ حدودها. والفلاحون لا يفرقون فى أى ملمح من حيث الملبس أو طريقة الكلام أو مستوى التعليم عن أبناء العاصمة.
بينما الناس فى ريفنا مثقلون بالجهل وبالعادات وبالتقاليد، أفقهم ضيق وطموحهم منحصر فى كسب المال. لقد تغيرت قيم الريف التى كنا نقرأ عنها.. اختفت الرغبة فى الجد والاجتهاد، الأسهل لأى شاب بدلًا من سهر الليالى طلبًا للعلا، أن يترك المدرسة وينزل الشارع ليعمل بائعا فى محل، أو يسوق «توك توك»، لم يعد الشباب يهتم بفكرة القيم أو يتطلع إلى نماذج إنسانية تعطى الأمل لتحسين الوضع الثقافى والاجتماعى، المهم هو المال، المال هنا ليس المال التراكمى المحرك لواقع المجتمع للأمام فى مسار التقدم الإنسانى، لكنه المال بمفهومه الساذج كترميز لمجموعة من السلع الاستهلاكية، التى ترسخ للتبذير والإسراف والسفه وتؤدى إلى تضخم كاذب للذات ومع جهل وافتقار للذوق وأى حس جمالى.
الريفيون فى بلادنا، أصابتهم لعنة المعرفة الزائفة، المعرفة السطحية الهشة، التى لا تؤدى إلى تراكم معرفة حقيقى يؤدى إلى تغير جوهرى فى عقل الإنسان، فكل شاب فى يده موبايل ويستطيع أن يعرف أحدث ما ينتجه العالم من كل شىء، وهو قادر على امتلاك الأشياء واستهلاكها، لكن عقله وبنية تفكيره التقليدية لا تتجاوز القرون الوسطى ويضاعف المشكلة عدم الوعى بهذه الحقيقة، واستسهال الكثيرين وافتقاد الهمة، فتحول الريف فى غالبه إلى مجرد مسخ فقد براءته دون المرور بأى تجربة أو خبرة.