رمضان فى طفولتى
أظن أن فى حياة كل منا «رمضان» أول، مثل الحب الأول، ومثل كل التجارب الأولى التى تكون كالضوء الشاهق بين جدران النفس الطفلة. و«رمضان» الأول الذى أذكره كان ونحن نسكن فى الجيزة فى شارع متواضع اسمه «السروجى» فى بيت بسيط من طابقين، شاده جدى بنفسه فأصبح عبرة لكل الذين يبنون المنازل دون خبرة ولا علم. ولم أرَ فى حياتى كلها بيتًا مثله، محنى الظهر، يمد إلى الشارع مقدمته محدقًا باستعلاء مضحك وفارغ الكبر. كان مثل كلب شرس، عدوانى، ليس لطبع أصيل فيه بل بسبب بؤسه.
كانت تجرى أمام البيت ترعة صغيرة، قذرة، تتهادى على سطحها علب صفيح، وأوراق صحف، وفروع شجر. وكل ما يمكن إلقاؤه فى الماء.
وكنت مع عيال الشارع جميعًا أسبح فيها، دون أن يخطر لى أن أمواج هذه الترعة ستغدو فيما بعد إسفلتًا أسود لشارع فيصل الضخم!، هناك حل «رمضان الأول» الذى علق بذاكرتى، وفيه رحنا نستيقظ للمرة الأولى قبل الفجر على دقات طبلة المسحراتى، ونجلس ونحن نفرك عيوننا لنتسحر، ونتلقى من جدتى خديجة التوجيه والنصح. وكانت جدتى مسالمة طيبة، لم أسمع لها صوتًا طوال سنوات طفولتى، كلامها أقرب إلى التنهد، تمشى بالقرب منا فى ثوبها الأسود المنسدل فلا ندرى إن كانت قد عبرت بجوارنا أم خُيل إلينا. وقبل موعد الإفطار بنصف الساعة تنادينى، وتضع بين يدىّ صحنًا واسعًا به قطايف وكنافة وتهمس لى: «روح به إلى بيت أم نصحى، قل لها ستى خديجة بتقول لك كل سنة وأنت طيبة يا أم نصحى». وكان بيت أم نصحى هو بيت المسيحيين الوحيد فى الشارع، وأولادها سمير وسعاد ونصحى أصحابنا، نلعب معًا، ونسبح فى الترعة معًا، وحتى عندما كنا نجوب الشارع حاملين فوانيس رمضان، كان نصحى وسمير يسيران بيننا وبيد كل منهما فانوس، نطرق أبواب البيوت ونقول: «رمضان كريم»، فيفتحون لنا ويضعون فى أيادينا حلوى أو قروشًا قليلة.
ومع أول قرشين وجدتهما فى يدى وأنا صبى صغير صرخت بفرحة «رمضان كريم يا عيال»، ورحت أتفحص القرشين بنهم. وكان معنا ولد صغير اسمه عبدالعاطى، أبوه من العمال الفقراء، فمشى معنا فى الشوارع لكن دون فانوس بيده، وفى اليوم الثالث رأينا بيده فانوسًا ضخمًا فاخرًا فاستغربنا، ولما سألناه من أين له هذا، قال: «عيل كان ناسيه على سلم البيت عندنا، أخذته وجريت». وصاح فيه عماد: «لكن دى سرقة؟». فزعق الولد بحرارة: «أنا مستعد أعمل أى حاجة بس أرضى ربنا وأمشى بفانوس»!، وكان يخيل إليه أن ربنا يرانا من أعلى بفضل نور الفوانيس، فلزمنا الصمت وواصلنا اختراق الشوارع حولنا. حتى حلول «أول رمضان» هذا، لم نكن قد شاهدنا السينما قط، سمعنا بها ولم نرَ شيئًا منها، إلى أن قال لنا الولد عماد المحتال إنه عنده سينما فى البيت، والتذكرة بنكلة، أى مليمين! والعرض اليوم.
هكذا بعد الإفطار مباشرة وقفنا صفًا طويلًا على باب شقة عماد، وقادنا أخوه إلى حجرة كبيرة بشباك واسع غطوه ببطانية غامقة. جلسنا على الأرض مباشرة أمام ملاءة بيضاء مفرودة من أعلى إلى أسفل، وخلفها من ركن ما انبعث ضوء «لمبة» جاز. وبعد لحظات سمعنا صوتًا من خلف الملاءة «نقدم لكم الفيلم الحربى صراع الجبابرة». ضحك الولد ربيع «هئ هئ. ده صوت الواد عماد. أنا عارفه»!، رد الصوت من وراء الملاءة «ممنوع الكلام أثناء العرض»!، ورأينا ظل شخص يرفع قدمًا ويهبط بالأخرى وهو واقف فى مكانه كأنما يسير، ثم لاح ظل آخر يرفع عصا طويلة كالسيف زاعقًا «عليك اللعنة»!، فأبرز الأول عصا وصاح «yes»!، أخذ الاثنان يتبارزان دون أن نفهم إن كان المحاربان من الرومان أم من العرب أم «الطلاينة»، واستمرت الحرب بينهما عشر دقائق كانت تدوى خلالها عبارة «عليك اللعنة» ومن بعدها «yes»!، إلى أن سقط واحد من الاثنين متأوهًا على الأرض فأعلن الثانى بصوت وقور «the end»، ثم برز إلينا من وراء الملاءة الولد عماد وأخوه ماهر ينحنيان بتواضع نجوم السينما الكبار.
رحنا ننهض من على الأرض ونحن مازلنا مأخوذين من الظلال التى تحركت أمامنا ومن الجو المعتم ومن أحداث الفيلم الحربى، وبداخلنا شك أن ما تفرجنا به للتو لا يمكن أن يكون فيلمًا وأننا أغلب الظن وقعنا ضحية خدعة غير شريفة!. وبينما نحن نهبط على السلم ونغادر البيت تمتم نصحى: «الواد عماد طلع له بحوالى ثلاثة أربعة صاغ من الهجص ده»!، وعلق ربيع: «عشان إحنا حمير»!. ومازلت إلى الآن، كلما حل الشهر الكريم، أتذكر رمضان الأول، بطفولته، وأصدقاء السنوات المبكرة، والصيام، والفوانيس، وأيضًا أول فيلم حربى أشاهده فى حياتى «صراع الجبابرة». وكل سنة وأنتم طيبون.