اقرأ باسم ربك الذي خلق
لسنوات طويلة ظل المتأسلمون يرددون أن الجهاد هو الفريضة الغائبة.. ولم يحصد الإسلام من تأديتهم فريضتهم إلا العنف والكراهية. فهل من محصول أشر كى نستدل على خبث البذرة، وسوء المنبت؟، ألا تكفى كل هذه الدماء والأشلاء كى نوقن بطلان زعمهم، ونشمر عن سواعدنا لنفحص ونتمحص فى تاريخنا وتاريخ الإنسانية، ونبحث عن الفريضة الغائبة التى لا نؤديها، أو نغفلها، ومن ثم حط علينا الإثم ووصلنا إلى الدرك الأسفل من الأمم؟.
إن الفريضة الغائبة عندى هى إعمال العقل.. إحكام الفكر.. تنمية الخيال.. السباحة لضفة أخرى.. التحليق فى فضاء مغاير.. ألم نسأم المياه الضحلة الراكدة؟، ماذا لو أن هناك عالما آخر وأفكارا أخرى؟، ماذا لو أن هناك مرايا مختلفة وتفسيرا مختلفا للوجود، للكون، للدين، للحياة؟.
فى هذا الشهر الكريم سأحاول استجابة لدعوة رب العالمين (أفلا يتفكرون)، (أفلا يعقلون)- أن أنظر معكم فى مرايا مختلفة، نسلط الضوء ونرفع التراب عن اجتهادات ورؤى لم تكن محل ترحيب، ولم تكن لها الحظوة لدى غالبية القوم.. ولنبدأ مع أول ما نزل من القرآن الكريم، ومن المسلمات التى توارثناها عبر ١٤ قرنا من التفاسير أنه فعل (اقرأ)، فى سورة العلق التى تبدأ بقوله عزّ وجلّ: «اقرأ باسم ربّك الّذى خلق». وتقول الرّواية إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يتعبّد فى غار حراء، ففاجأه الوحى فيه، إذ جاءه الملك جبريل، وقال له: اقرأ، فقال الرّسول: ما أنا بقارئ، فأخذه الملك وغطّه حتّى بلغ منه الجهد، ثمّ أرسله وقال: اقرأ باسم ربّك الّذى خلق، خلق الإنسان من علق، إلى قوله: علّم الإنسان ما لم يعلم.
وقد كان وما زال التفسير السائد يقول إن الفعل اقرأ مرتبط بالقراءة، مما يؤكد أهمّية مفهوم القراءة فى الإسلام التى تتنوع معانيها إلى القراءة بمعنى تلاوة القرآن، والقراءة بمعنى التفسير أى إعطاء معنى للكلام وتحديد مفاهيمه، والقراءة بمعنى الإفشاء أى الإعلام والإبلاغ، ومنه القول الشّائع: «فلان يقرئك السّلام»، أى فلان يبلغك السّلام.
وقد ظللنا لسنوات نتبنى التفسير الأول: وأصبح لهذا الفعل الأمر تأثير السحر لدى كل من يمتون للقراءة والكتابة بصلة.. اقرأ: أول كلمة فى آخر خطاب إلهى موجه من الله السماء إلى الإنسان الأرض، وإذا قرأ لإنسان لن يكون بحاجة إلى إرشاد جديد من السماء، إنها الثقة الكبيرة التى منحها الله تعالى للإنسان، بعد أن وهبه العقل، والوسائل التى تكفل له تحصيل المعرفة، وأمره باستخدام هذه الرسائل وحذره من إهمالها وجعله مسئولًا عن تعطيلها.. يا الله له من تفسير بديع.
لكن هناك رؤية أخرى ترى:
كلمةَ «اقرأ» هنا تأتى لتعنى: اُُدْعُ، أىْ بلِّغ، اصدع، انشُرْ، وليس بمعنى «اقرأ»، بما يتصل بالقراءة والكتابة وفك الحرف.. وأن مقولة الرسول (ص) - «ما أنا بقارئ» - كانت فى صيغة وسياق السؤال والاستفسار، وليست فى صيغة «الإنكار أو «النفى». فالمقولة: «ما أنا بقارئ» لا تعنى: لست بقارئ.. بل جاءت لفظة «ما».. بمعنى الاستفهام والاستفسار، كقولك: «ما أنا بقارئ؟» بمعنى: ما المطلوب منى قراءته؟؛ ماذا أنا بقارئ؟، ما المطلوب منى «تبليغه»؟، و«ما المطلوب منى الدعوة إليه أو به؟، فيكون الجواب متناسقًا: اقرأ، أى بلِّغ.. واصدع.. وانشر، وادعُ.. باسم ربك.
قد تكون رومانسيا ميالا للدراما فتتبنى تفسيرًا، وقد تكون واقعيًا وتتبنى التفسير الآخر، وسواء اخترت هذا أو ذاك فلن يضيرك شىء.. بل ستكون قد عقلت وفكرت وتدبرت كما أمرنا الله عز وجل.