كيف نرى أنفسنا فى ضوء تقدير المجتمع لنا؟
قبيل الشروع فى كتابة هذه السطور تابعت رسالة من والد الصبى الصغير، الذى لا يزال فى المرحلة الأولى من التعليم، وفى امتحان الإملاء للغة العربية كيف كان التلميذ أفضل من معلمه عكس ما نعلم وما ندرب احترامنا للمعلم وبيت الشعر الذى حفظناه «قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا».
أما فى حالة الطفل الذى كتب الكلمة صحيحة، إلا أن المعلم شطبها وكتب بقلمه الإجابة الخاطئة، فكان التلميذ هو الأصح ومع ذلك نقص درجة، ولأنه ليس مستبعدًا أن يخطئ الإنسان، فجل من لا يخطئ، ولكن ما كنت أتوقعه أن يكتشف المعلم خطأه ويعتذر للتلميذ ويرد له الدرجة، التى خصمها منه دون حق، وبهذا يكون المعلم قدوة حسنة لطلابه، معلمًا إياهم أُسلوب المعاملة الحسنة وتصحيح الخطأ. لكن ما أتمناه حقيقة هو ألا يتأثر الابن الذى أضير وألا يفقد ثقته أو رؤيته للمعلم فجل من لا يخطئ. واعلم أيها الطفل النجيب أنه يمكنك بأدبك المعهود أن تنفرد بينك وبين معلمك وفى احترامك له كما لنفسك وتطلب منه إعادة النظر فى تصويب الخطأ، وأثق أن معلمك سوف يقدر موقفك وأدبك، والأهم ليس فى درجة تعاد إليك ولكن فى تقديرك لأستاذك ولنفسك، واعلم يا بنى احترامك لمعلمك واجب، وتقديرك لنفسك مطلوب، وباستطاعتك الحديث مع معلمك لتصويب السهو.
ولعل هذا المثال يقربنا لضرورة تصحيح رؤانا كآباء لأبنائنا أو معلمين لتلاميذهم فعلماء الاجتماع والنفس يَرَوْن الإنسان فى أكثر من صورة لفهم طبيعة البشر: الأولى هى نظرية الحتمية الوراثية، فنحن نجنى ثمار ما زرعه الأجداد وانتقل إلينا عبر الحامض النووى الذى يستمر فى مسيرته للأجيال القادمة عبر سلسلة وراثية ومنها لون بشرتى وطبيعة شعر رأسى فى لونه ودرجة نعومته أو خشونته.
أما الوسيلة الأخرى لما وصلنا إليه من نوعية مزاجية مغايرة من شخص لآخر وذلك لأسلوب التربية وأساليب الترهيب والتهديد أو التدليل والخوف الزائد على الطفل حتى إنه يكبر معتمدًا على من هم أكبر منه، وقد التقيت بشخصية لها مكانتها العلمية والاجتماعية وله شقيقتان تصغرانه بسنوات قليلة، وهو وشقيقتاه تربوا معًا بعد وفاة والدهم وهم فى مرحلة الصبا، فأخذ الابن أسلوب والدهم فى اختيار كل شىء لأولاده حتى لون ثيابهما وأبسط قواعد احتياجاتهما، فكان الأخ الأكبر هو الذى يختار لأختيه حتى لون ثيابهما.. إن علماء النفس وعلماء الاجتماع يتفقون حول أسباب الاعتماد على الغير والخوف من انتقاد الآخرين لك فى حالة الإخفاق فى تصرفاتك واختياراتك.
أما النظرية الثالثة فهى طبيعة البيئة التى نعيش فيها أو تربينا فيها وظلت تحكمنا حتى بعد انتقالنا إلى بيئات أخرى قد تكون أكثر انفتاحًا من البيئة التى تربينا فيها.فهناك بيئات صعبة التعامل ومنها من يحرّم على المرأة أن تقود سيارتها، وفى لقاء مع أستاذة جامعية ولدت وتعيش فى بيئة تجرم قيادة المرأة سيارتها، واستطاعت أن تحصل على ترخيص لها من دولة مجاورة بقيادة سيارتها، وبالفعل مارست القيادة فى طريقها إلى جامعتها فأوقفها الشرطى وقادها إلى المحقق الذى طلب منها ألا تقود سيارتها مرة أخرى وعليها أن تلتزم بالقانون، وعندما قالت له إنها تذهب كل يوم للتدريس بالجامعة، قال الضابط فليقم زوجك بقيادة السيارة، أجابت إن زوجى رجل أعمال كثير السفر وهذا معناه أننى لا أذهب لعملى، فقال لها الضابط: لكى أن تعينى سائقًا خاصًا، فأجابت الأستاذة: كيف تجرمون لقاء رجل غريب مع سيدة منفردين وتطلب منى تعيين سائق غريب عنى. قال هكذا قوانيننا وعليكم احترامها وإلا سحبنا منك السيارة، وردت الأستاذة سوف أشترى سيارة أخرى، قال الضابط أنت تعرضين نفسك لعقوبة الحبس، ردت السيدة وبعد خروجى من الحبس سوف أمارس قيادة سيارتى إلى عملى».
كان هذا لقائى مع الأستاذة منذ عدة سنوات، وتأتى الأخبار أن هذه الدولة فتحت الطريق للسيدات أن يقدن سياراتهن بأنفسهن «هكذا تكون العزيمة والإصرار حتى تغيير المسار غير المتآلف عليه تجاوبًا مع ضغوط الرافضين لقوانين ظالمة أو متعسفة. ونقرأ عن شخصيات تحدت القوانين الظالمة ومنها قصة فيكتور فرانكل وقد كان من أتباع مذهب الحاتمية، وتربى فى كنف نظرية فرويد عالم النفس، ونظريته تقول: إن ما يحدث لنا يشكل شخصياتنا ويسيطر على حياتنا بالكامل وليس بأيدينا تغيير مسارنا.
كان فرانكل صاحب النظرية أحد من اعتقلوا فى معسكر للنازى بألمانيا، ومر بتعذيب وامتهان لكرامته ما لا يستطيع كاتب أن يسطره على ورق، ومات والده ووالدته وكل أفراد أسرته فى المحارق ما عدا أخت له، واستمر تعذيبه، ولم يتوقع أحد أنه سيخرج حيًا من محبسه، إلا أنه وفى قمة تعذيبه حتى قارب الموت خرج بقناعة أنهم بأيديهم التخلص منه ولكنهم لن يقضوا على نفسيته، وقناعته بأنهم بأيديهم جسده ولكن ما لا يملكونه هو نفسه، وخرج من معسكرات التعذيب وظل يشرح لتلاميذه «لن يستطيع أحد أن يملك نفسى، لهم جسدى بكل ما لديهم من أسلحة وأساليب امتهان لهذا الجسد، إلا كرامتى لنفسى فلن يستطيع أحد امتهانها إلا باختيارى».
إن مواهبنا الإنسانية تسمو بنا فوق مرتبة الحيوان، واستطاع أحدهم أن يقول إن الخالق ميز البشر فوق مكانة الحيوان وفوق الملائكة، فالحيوان له غرائزه وليست له إرادة لتغييرها، والملائكة لهم مكانتهم العالية، لكنهم بلا إرادة إنما أرواح خالدة بلا غرائز أو شهوات وملذّات، يفعلون ما يؤمرون به، أما الإنسان فقد خلق جسدًا وروحًا، والجسد له غرائزه وضعفاته، فإن تغلبت إرادته على شهوته كان أفضل من الملائكة، وإن تغلبت شهوته على إرادته كان أقل من الحيوان الذى لا إرادة له.