النقد والحقيقة والموهبة
عام ١٩٦٦ التقيت الكاتب العظيم يوسف إدريس، وقدمت إليه قصة من تأليفى. قرأها باهتمام وطلب منى أن أمر عليه بعد أسبوع. فى اللقاء الثانى قال لى: «القصة جيدة، سأنشرها فى مجلة الكاتب وأقدمها». ولم أصدق ما أسمعه. ثم قال: «لكن ليتك تغير عنوانها». وما إن قال ذلك حتى لم تعد تهمنى القصة، ولا نشرها، أصبح يهمنى فقط أن أقول له: لا.. لن أغير العنوان. لا لشىء إلا لكى أحكى فيما بعد أننى اختلفت مع يوسف إدريس، وأنه قال كذا، فرددت عليه بكيت. كنت فى الثامنة عشرة ودفعتنى سنى وغرورى للاعتراض من باب الاعتراض على ملاحظة صحيحة أدلى بها أديب عظيم، فقلت له بعنجهية: «لا، آسف جدًا».
أحاطنى هو بنظرة بها طيف بسمة وقال: «خلاص. خلى العنوان كده». لم يقل لى إن العنوان سخيف، ولا إنه لا يتماشى مع القصة، ولا أى شىء. أدرك أننى مع الزمن سأفهم. وكان لنا صديق آخر فى الستينيات يكتب قصصًا من نوع عجيب، لا يُفهم منها حرف، الأكثر من ذلك أنه كان يكتب عنوان القصة أطول من القصة ذاتها، وذهب بعمل من هذا النوع إلى الأستاذ الكبير يحيى حقى، وكان رئيس تحرير مجلة المجلة، وكان عنوان قصته شيئًا من هذا القبيل: «نور هادئ فى صمت نهارى تحت شمس ساخنة فى أفق بعيد حينما تحرك الرجل ببطء إلى البيت».
قرأها الأستاذ الكبير الدمث، وقال له: «ليتك على الأقل تختصر هذا العنوان الطويل»، لكن صديقنا رأسه وألف سيف ألا يمس العنوان المقدس أى تعديل. ولم يقل له يحيى حقى إن العنوان سخيف، وإن الكتابة أسخف، الأكثر من ذلك أنه نشر القصة. وقد راعى الكاتبان الكبيران أنهما يتعاملان مع شابين فى مقتبل العمر، وأن عليهما ألا يحطما بقول الحقيقة طموحًا لم يشتد عوده. الحقيقة تبقى حقيقة دائمًا. لكن ما معنى إشهار حقيقة تهدم الناس؟ ولا تساعدهم على التطور؟. على سبيل المثال معظم الأطباء يعلمون فى حالات كثيرة أن وضع المريض ميئوس منه، وأن أمامه أشهرًا قليلة ليحياها. هذه هى الحقيقة، لكنهم لا يخبرون المريض بذلك، لأن هذه الحقيقة قد تقضى على ما تبقى من قدرته على المقاومة. فى النقد الأدبى أيضًا ما من حقيقة مطلقة بحد ذاتها.
كل حقيقة يجب أن تراعى الحالة التى تتعامل معها. هل الكاتب راسخ القدمين لن يحطمه النقد؟ أم أنه من الأصل كاتب مزيف اختبرته الحياة فوجدته لا يعتمد إلا على علاقات اجتماعية وصحفية وحكومية؟ أم أنه كاتب شاب يقدم عمله للمرة الأولى؟. يكتسب ذلك الحديث أهميته بسبب أنه ليس بوسعنا أن نحدد إن كان الأديب الشاب موهوبًا أم لا، بل لا نستطيع أن نحدد عمق موهبته، ولا يمكنك أن تخمن ما الذى قد يبدعه مستقبلًا، لأنه ما من جهاز أو اختراع يمكنه قياس الموهبة! هناك ما يسمى المسبار الذى يقيسون به عمق المياه فى الأنهار، لكن لم يخترع أحد بعد مسبارًا للتعرف إلى عمق الموهبة، لهذا فإن الحكم الصارم على موهبة شابة يشبه الحكم على جنين أنت لا تدرى كيف سينمو، ومن قد يكون بالضبط. وقد كان لى صديق عزيز بدأ كتابة القصة القصيرة مبكرًا، ثم أوقفته عن الاستمرار الملاحظات القاسية الحقيقية التى أدلى بها الآخرون بشأن ما يكتبه، وحطمت تلك «الحقيقة» موهبته بدلًا من أن تساعده.
ما الحقيقة النقدية إذن إن لم يكن دورها تطوير القدرات وليس هدمها؟ أظن أن علينا أن نرى وأن نعلن من الحقيقة ذلك الجزء القادر على استنفار المواهب والأمل لدى الناس، خاصة عندما يتعلق الأمر بالنقد الأدبى والمواهب الشابة. لا يعنى كل ما سبق أن علينا أن نكذب أو أن نخالف الحقيقة، لكن بوسعنا أن نظهر منها الجزء اللازم لتطوير وتفتيح طاقة الأدباء الذين فى بدايات الطريق. وفى هذه الحال أقوم أنا شخصيًا بالتركيز على الجوانب الإيجابية، مع إشارة لأحد أوجه القصور، وأعتبر أن قدرًا من الثناء والامتداح مطلوب ومهم، ولا أجد ضررًا فى ذلك.
وعامة لا أفهم الحقائق النظرية بعيدًا عن فائدتها المحددة، أو بعيدًا عن مبدأ تشجيع الآخرين، ومساعدتهم، وكثيرًا ما أتذكر حينما كنا نلتقى أنا وجمال الغيطانى فى الصباح على كوبرى قصر النيل الأستاذ العظيم نجيب محفوظ، وهو يقطع المسافة سيرًا على قدميه من بيته على كورنيش النيل إلى مبنى التليفزيون، فنعطيه قصتين، ونعود إليه صباح اليوم التالى. أذكر أننى أعطيته فى المرة الأولى قصة بعنوان «منطق آخر»، وأعادها إلىّ قائلًا لى: «لو أن هناك درجات تعطى للقصص لأعطيتك تسعًا من عشر». أى ترفق جميل هذا؟ أتصور الآن كل جوانب الضعف التى امتلأت بها قصتى، لكنه أعطى الدرجات التسع ليس للقصة، بل للأمل فيما قد يكون.