الاحتلال التركى لعفرين.. الأخطر فيما بعده
فعليًا الأمور وصلت فى سوريا إلى مرحلة البحث عن- أو انتظار- توازن جديد للقوى على الأرض، يمكنه على الأقل أن يُلملم شتات التحالفات القائمة. فقد جاءت عملية «غصن الزيتون» التركية، بمثابة امتحان مؤلم لتلك التحالفات الهشة فى أكثرها. فهذا الاجتياح العسكرى لم يكن كرديًا تركيًا خالصًا، بقدر ما كان يختبر واقعيًا المدى الذى وصلت إليه التفاهمات الروسية التركية.. فروسيا التى أتت إلى سوريا منذ أعوام بغرض تثبيت سيطرة نظام الأسد على ما يمكن الوصول إليه من أراضى سوريا الرسمية تعلمت مؤخرًا أبجدية «الصراع»، وبدأت تتحدث بلغته الخاصة، فما كانت تتبادله الفصائل المسلحة من صفقات طوال سنوات مضت، قامت به القوات الروسية بحق الأكراد عشية الاجتياح التركى.
فالأكراد ذكروا صراحة أنهم أجروا اتصالات مع الجانب الروسى، وحاولوا إقناعهم بعدم إعطاء الضوء الأخضر لتركيا، وخاصة من حيث فتح المجال الجوى أمامهم، حيث يخل ذلك بشدة بميزان القدرة على المقاومة. وقدموا عرضًا للسماح لقوات النظام السورى بالقدوم والإمساك بالحدود، فى مواجهة غزو عسكرى تركى كان معلنًا حينها وينتظر التوقيت فقط. وفى الوقت الذى نفى الروس للأكراد وجود أى تفاهمات مع تركيا، بل أرسلوا لهم رسائل تطمينا بأن «عملية الغزو» دعاية أردوغانية للاستهلاك الداخلى- جاءت اللحظات الأخيرة قبل الهجوم بـ٢٤ ساعة، لتحمل مفاجأة سحب القوات الروسية من «كفر جنة» فى طريق «عفرين»، وحين سأل الأكراد عن سبب ذلك الانسحاب الروسى تحججوا بأمور عسكرية، وإعادة انتشار وما إلى ذلك، بل فرض تقيد لـ«الدفاع الجوى» لإفساح المجال أمام الطيران التركى، كى يدك القرى والبلدات بحُرية تامة من دون منغصات، وصولًا لاحتلال الأرض الكردية السورية.
روسيا بـ«اللغة الجديدة» وافقت على توغل الجيش التركى فى الشمال السورى، فى مقابل أن تُغذى مزيدًا من احتقان العلاقة ما بين واشنطن وأنقرة. فتلك المناطق بالأساس تحت الحماية الأمريكية، والصمت الأمريكى سيخصم أيضًا من متانة روابطه مع الأكراد، حيث يظل الأخيران هما سياج ومبرر «التواجد الأمريكى» فى الشمال السورى برمته. هذه معادلة تراها موسكو مخلخلة لهذا التواجد بصورة أو بأخرى. ووضعتها فى ميزان مكاسبها الإجمالية من الصراع، ربما من دون أن تضع فى الاعتبار مصير هذا التوغل التركى، وإلى أين سيصل مستقبلًا بعد «عفرين»؟.
ربما بعد الاحتلال التركى ورفع الأعلام وسط مدينة «عفرين»، فى مشهد له دلالته، يمكن طرح السؤال على الجانب الروسى وعلى النظام الذى أجبر على الصمت، بصيغة أخرى قد تبدو أكثر اقترابًا من الواقع الفعلى: هل تتم التضحية بالشمال السورى برمته كى تتقاسمه الولايات المتحدة وتركيا، حيث سيكون البديل الطموحات الفيدرالية الكردية؟. لذلك يأتى الخيار الأول محققًا قدرًا أكبر من المكاسب عن الثانى الفقير الذى لن يحقق شيئًا لا للنظام ولا لروسيا، وهذا يعكس تقييمًا يبدو أنه جرى مسبقًا أفاد بأن الشمال السورى، قد خرج للأبد من حلم استعادته للسلطة المركزية فى دمشق، لذلك فخضوعه للمقايضة واستخراج الفوائد منه يمكن أن يتم وفق هذا السيناريو!.
فعليا لم تكن التنازلات مقتصرة على هذا الجانب وحده، فالولايات المتحدة وجدت نفسها مضطرة للتنازل جزئيًا أمام تركيا. فمساحات الاحتقان فى العلاقة الاستراتيجية ما بين البلدين كانت قبيل «عفرين» قد وصلت إلى ما لا يمكن الذهاب لأبعد منه. لذلك جاء خيار واشنطن بالتراجع قليلًا وإبداء التفهم، الذى هو فى معناه الواقعى بحث عن سبيل لاستعادة ما تبقى من تركيا، من مخالب الدب الروسى. فضلًا عن أن الترتيب المستقبلى للمنطقة وليست سوريا وحدها سيمر حتمًا عبر أنقرة، هذا من وجهة النظر الأمريكية التى ترى إيران وروسيا فى حاجة إلى فصل من التحجيم، وتحجز لإسرائيل قدرًا مقابلًا من الاهتمام بتأمينها وضمان مصالحها. وكلا الهدفين ستحتاج الولايات المتحدة فيهما للعديد من الأدوار التركية الجغرافية والتى لا يمكن تغييرها، والسياسية والاستخباراتية التى تنخرط فيهما أنقرة منذ سنوات فيما يخص تلك المنطقة.
لكن ما يمكن ذكره باعتباره الأخطر فيما بعد الاحتلال التركى لمدينة «عفرين» أن الخطة العسكرية للجيش التركى لن تقتصر على ذلك، فالطريق إلى منبج والقامشلى وغيرهما من مدن الشمال الخاضعة للسيطرة الكردية يظل دائمًا محل استهداف تالٍ ومُغرٍ للقوات التركية، تحت نفس الذرائع «الحرب على الإرهابيين الأكراد»، وربما تحظى بذات حسابات التواطؤ من الأطراف الأخرى. فقد بدأت أنقرة فعليًا فى إعداد الإدارة الجديدة للمناطق الكردية، حيث تنظم الآن لمؤتمر فى مدينة «غازى عنتاب» جنوب تركيا، سيضم ١٠٠ شخصية سورية، منهم أكراد يعملون لحساب الاستخبارات التركية، كى يشكلوا فيما بينهم «إدارة حكم» عميلة لأنقرة، لتأمين الخدمات والإغاثة والاهتمام بالصحة والتعليم والقضاء وإنشاء شرطة محلية، وذلك حسبما جاء يوم المؤتمر الأول على لسان «رديف مصطفى» نائب ما يسمى بـ«رابطة المستقلين الكرد السوريين».
هل تظل صناعة العملاء الذين سيديرون المنطقة لحساب أنقرة، هى الأخطر فى المشهد المستقبلى للشمال السورى؟، حقيقة الأمر أن هناك ما هو أخطر وأكثر إيلامًا، وفتحًا زمنيًا لآفاق الصراع على الأرض لمدى يصعب تحديده. فالسكان السوريون سيظلون لسنوات قادمة تحت وطأة أكبر عملية نقل وإحلال وتبادل للأراضى والبيوت، والتى يُطلق عليها اختصارًا «التغيير الديموغرافى» لأعداد مليونية، بدأ البعض منها فى محيط دمشق وصولًا للحدود مع لبنان. واليوم تدخل المناطق الكردية فى الشمال، إلى ذات المحرقة على أيدى القوات التركية، حيث تستعد لها بـ«٥. ١ مليون لاجئ» سورى جاهزين بالأراضى التركية، ليس للعودة إلى مدنهم وأراضيهم الأصلية، لكن فى انتظار دفعهم لبلدات الشمال، كى يشكلوا التفوق السكانى على المكون الكردى فيها.